الرئيسية / مقالات
الأرض.. في يوم الأرض بقلم نبيل دويكات
تاريخ النشر: الخميس 31/03/2016 09:22
الأرض.. في يوم الأرض بقلم نبيل دويكات
الأرض.. في يوم الأرض بقلم نبيل دويكات

 في الثلاثين من آذار عام 1976، ذلك اليوم الذي شهد أحداث يوم الأرض، كنت طفلاً على مقاعد الدراسة الإبتدائية في قريتي التي كانت تعتبر في مقاييس تلك الأيام من المناطق النائية والبعيدة. لم أكن اعرف، مثلما كل جيلي من الأطفال،  حتى ماذا تعني الأرض، عوضاً عن مناسبة ذلك اليوم الذي أصبح فيما بعد رمزاً من رموز النضال الوطني الفلسطيني، ويعبر عن مفاهيم ومضامين واسعة لهذا النضال في الحفاظ على الأرض والوجود والصمود عليها. وكل ما عرفته في الأيام اللاحقة ذالك العام عن هذه المناسبة تلك "المظاهرة" التي نظمها الطلبة الأكبر سناً في ساحة مدرستنا لدقائق معدودة، وأطلقوا خلالها هتافات عديدة لا زلت أذكر منها ذلك الشعار الذي كان يقول: "فليسقط وعد بلفور"، ولم نفهم في حينه معنى تلك الهتافات، ولا علاقتها بيوم الأرض.

أما ما كنت أعيشه وأفهمه جيداً في ذلك الحين فهو أنه في محيط قريتنا جبال كثيرة وواسعة وممتدة في ثلاث إتجاهات، وكنا كأطفال نعتقد أنه لا حدود لها، وفقط مع مرور السنوات أدركنا أن تلك الجبال تصل حدودها الى القرى والمناطق المجاورة، وربما كانت قمة التحدي بين جيل الطفولة المتأخرة هو التباهي والتفاخر بالقدرة على الوصول الى واحدة من القرى المجاورة عبر سلسلة الجبال تلك، بكل ما في الأمر من روح تنطوي على المغامرة في الصعود والنزول من جبل الى آخر، ومن تلة الى وادٍ وصولاً الى ذلك الإنجاز، وفي ظل روايات وحكايات متداولة أنه في ثنايا تلك الجبال والمناطق الواسعة من الأرض هناك الكثير من المخاطر في وجود الوحوش والحيوانات المفترسة... وغيرها من مخاطر الطبيعة.

في السنوات اللاحقة، وتحديداً مطلع سنوات الثمانينات من القرن الماضي، عايشت أيضاً ظروف وتفاصيل إقامة أول مستوطنة على أراضي القرية، وعايشت أيضاً تلك الحركة الدؤوبة التي رافقت إقامة المستوطنة، حركة الفلاحين أصحاب الأراضي ومعهم قطاع واسع من القوى والمؤسسات وعلى رأسها قيادات ورؤساء بلديات المدن التي فازت في انتخابات البلديات في العام 1976. مظاهرات ومسيرات، عرائض واحتجاجات وتنظيم تحركات مختلفة ومن بينها النضال القانوني الذي أفضى الى قرار، وربما سابقة قانونية، من محكمة الإحتلال العليا في حينه بإزالة المستوطنة وتثبيت الأرض الى أصحابها، وتفكيك ونقل البيوت المتنقلة للمستوطنة من مكانها.

لا أزال أتذكر ذلك اليوم الذي اندفع فيه سكان القرية وكل القرى والمدينة والمخيمات المجاورة الى  المكان الذي تم اخلائه من المستوطنين. كان حدثاً نادراً وفريداً، ولم يتكرر لاحقاً على ما أعتقد. ثم ما لبثت أن أقيمت مستوطنة أخرى على مقربة من المكان الأول. وبالنسبة لجيلنا الذي كبر مع هذا التاريخ، اليوم وبعد اربعة عقود من الزمن وبالنسبة للأطفال الذين لا زالوا في نفس العمر الذي كنا فيه عام 1976، فان هناك نهاية واضحة ومحددة يدركها الجميع لحدود القرية وأراضيها، وهو الشارع الذي يصل بين المستوطنات المحيطة بنا من عدة إتجاهات، وهو نفس الشارع الذي يفصلنا عن القرى المحيطة، بل وربما يمنع بعضنا من الوصول الى أرضه القريبة من الشارع، أو مواجهة الكثير من الصعوبات والعراقيل للوصول اليها. وليس مبالغاً فيه القول أن حال معظم قرانا وتجمعاتنا الجغرافية المختلفة أصبح اليوم هو نفس الحال، مناطق جغرافية محدودة المساحة ومحاطة بسلسلة من المستوطنات والطرق الاستيطانية التي تغلق آفاق أي امتداد أو توسع لهذه التجمعات.

وقفت قبل عدة أيام في تلك الأرض التي تملكها عائلتي على أطراف القرية والتي اقتربت مع الزمن الى ما أصبحنا نسميه "مناطق التماس"، أو بالأصبح ان تلك المناطق إقتربت منها، وهي المناطق الأكثر قرباً من حدود المستوطنات القائمة. مرت في ذهني الكثير من الأسئلة والتساؤلات التي فضلت الإنتظار عدة أيام لطرحها. واليوم وبعد مرور مناسبة الثلاثين من آذار، وانتهاء زخم غالبية الفعاليات التي نظمتها المؤسسات والهيئات الرسمية وغير الرسمية فإنني أجد نفسي مستعداً لطرحها على المستوى المجتمعي للنقاش والتفكير، لعل الإجابة عليها تساهم في تسليط الضوء على خطوة أو خطوات عملية على الأرض تمكننا من الحفاظ على ذلك الجزء المتبقي لنا من الأرض، وعلى الأقل موطىء القدم الذي نقف عليه.

يمكن تركيز كل تلك التساؤلات في سؤال رئيسي واحد وهو، ما هي الخطوات العملية التي قمنا، أو يمكننا القيام بها للحفاظ على الأرض والتمسك بها، في ظل هذا الهجوم الشامل والكاسح عليها؟؟ السؤال في أعتقادي يحتاج الى إجابات دقيقة وعملية، ولم يعد كافياً تلك الإجابات التي تتضمن الخطب والشعارات وتعداد الخطط أو البرامج والنشاطات وحساب الموازنات التي أُنفقت لهذا الغرض، و عقد المؤتمرات وإصدار البيانات، أو عدد الأشجار التي تم توزيعها أو غرسها بهذه المناسبة، أو حتى المسيرات والمظاهرات، أو انشغال عشرات المؤسسات والهيئات برصد وعد الانتهاكات ومساحات الأرض التي يتم مصادرتها، رغم تقديري لأهمية كل ذلك في إستمرار التعبئة والتوعية والحفاظ على رمزية المناسبة والذكرى، وكشف أساليب وممارسات الاحتلال ومستوطنيه في هذا المجال. هذه الإجابات لم تعد كافية بإعتقادي، لأن واقع الحال يشير أولاً الى أن وجودنا وسيطرتنا على الأرض في تراجع مستمر، وثانياً لأن مواجهة العمل على الأرض يكون بالعمل على الأرض أيضاً، ولأننا لو  تابعنا الفعاليات المختلفة بهذه المناسبة ثالثاً، فإننا سنجد أن جزءاً كبيراً منها يتكرر كل عام، مع إختلافات بسيطة في التفاصيل.

من السؤال الرئيسي أعلاه يمكن لكلٍ منا صياغة العديد من الأسئلة المتفرعة، وللكثيرين منا تجارب وخبرات تراكمت في هذا المجال عبر تلك العقود الأربعة من الزمن. لكن عبرتنا ودرسنا الأساسي نستقيه من ثقافتنا وتاريخنا، حيث يقول المثل الشعبي "لا يحرث الأرض غير عجولها". والدرس الأساسي الذي يمكن تعلمه في الحفاظ على الأرض والصمود عليها لا يمكن لنا أن نفهمه إلا على لسان من يحرث الأرض ويزرعها، فهو الذي يعرف كل شبر وحجر وشجرة وعشبة فيها. ويعرف كيف ومتى وبماذا يزرعها، وكيف يجني ثمارها ويسوّقها، ومقدار التعب والعرق الذي يبذله لأجل ذلك. وهو من يعرف فعلاً ما هي الصعوبات التي يواجهها في كل خطوة من تلك الخطوات، تفاصيل كثيرة جداً تستنزف سنوات طويلة من العمر.

خلاصة تجربة أحد "عجول" الأرض وردت على لسان أحد الأصدقاء الذي قضى سنوات طويلة في العمل في أرضه وإستصلاحها وزراعتها وجني ثمار محاصيلها، بذل جهداً كبيراً، وقتاً طويلاً في العمل، ولم ينسى طوال الوقت أن يطرق بين الحين والآخر أبواب الهيئات والمؤسسات المعنية، الرسمية وغير الرسمية، طالباً المساندة ولو بأقل الحدود، فتح طريق زراعي، أو بناء جدار إستنادي، أو حفر بئر لتخزين المياه أو غيره من أشكال المساندة، ولم يجدها، وبقيت كل طلباته أشكال وأنواع من دعم الصمود مع وقف التنفيذ.

خلاصة القول أننا في يوم الأرض أحوج ما نكون الى وقفة نقدية جادة، لفحص الأساليب والوسائل وطرق وأدوات العمل والشعارات والخطط والبرامج، والمعايير المتبعة، والفئات والشرائح، وقياس الإنجازات والنتائج لكي نكون أقرب الى الواقع، ولكي نكون على الأرض ومن أجل الأرض. وبدون ذلك فإننا سنبقى كل عام نحتفل بغراسة ملايين الأشجار بدون أن نجد بعد عدة أعوام حتى شجرة واحدة منها نستظل بظلالها، وتتحول كل كلماتنا وشعاراتنا وخُطبنا الى ما ينطبق عليه المثل الشعبي القائل: "زراعة البحر مقاثي".

 

نبيل دويكات

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017