الرئيسية / قسم27
من ذاكرة الأسر بقلم سارة الغول
تاريخ النشر: الأثنين 10/10/2016 14:17
من ذاكرة  الأسر بقلم سارة الغول
من ذاكرة الأسر بقلم سارة الغول

 سارة الغول 

يوم .. يومان .. ثلاثة أيام , أسبوع .. شهر .. 33 يوم لا لا 34 .. سحقاً يبدو أنني نسيت..

كم يوم مضى ! ماذا كان ذلك اليوم ؟ أحد أم خميس .. حقا لست أذكر ،

لكن .. صحيح! لقد كتبته على إحدى هذه الواجهات لكن أي واحدة منها ؟ هل الرمادية؟ أو الرمادية ؟

ها هو !

“انا محمد ودخلت الزنزانة اليوم 19 ايار 1980”

مهلا ليس انا من كتب هذا التاريخ !

في هذه السنة لم يكن أبي يعرف أمي حتى ..

ياه .. الله فقط يعلم كم محمد دخل هنا !

حسنا , لقد استسلمت لن أستطيع معرفة كم يوم لي هنا أو بالأصح كم شهر .

“محمد .. محمد ! لا دشروه محمد ملوش خص دشرو وحيدي يا ويلكم من الله طيب خلص خذوه بس تضربوهوش دخيلكم “

يا لهذا المشهد ! انه يزورني كل دقيقة , توسلات أمي وبكائها وصراخها عندما اعتقلوني هي أكثر ما يؤلمني الآن ويكسر ظهري ..

فُتِحَ الباب وجرّني أحدهم الى غرفة أخرى وكبّل يداي وقدماي بكرسي حديديّ كادت برودته أن تمزق أوردتي وانا لا زلت بقميصي بلا أكمام الذي اعتقلوني فيه .. هذه البرودة تعني أننا الآن في فصل الشتاء.

لم أكن استطيع أن أفتح عيناي لوجود ضوء ساطع , وانا لم أرَ أي شعاع ضوء من مدة طويلة .

-قال أحدهم ببرود : أنظر الى هذه الصورة هل تعرف هذا المنزل ؟ مساكين أهله لقد هدم فوق رؤوسهم وسمعت أنه لم يكن فيه سوى عجوز .

-تمعنت بالصورة .. أمي ! شعرت أن الدم تجمد في عروقي و قلبي توقف عن النبض لوهلة .

ضحك ضحكة طويلة وقال : ألن تعترف ؟ سمعت أنه ليس لك الا أمك وها هي رحلت لم يعد هناك ما يستحق أن تنكر لأجله .

ولكن لم أعد كما المرات السابقة بلا اعتراف فأنا وعندما صدمت باستشهاد أمي ودفنها تحت ذكرياتي لم أجد ما أنكر لأجله وانتهى الأمر بي بتلك الزوايا الخشنة الأربعة مع بعض الدماء والأفكار القاتلة وباعتراف سيقضي عليّ حتماً.

بعد مدة;

أخبرني حارس الزنزانة أنه حان موعد محاكمتي وأن “البوسطة “ ستصل بعد يومين لنقل الأسرى الى المحكمة , وأنه حتى هذه المدة سيتم نقلي الى احدى السجون لنقلي مع باقي الأسرى دفعة واحدة , و برغم صعوبة ما أعانيه الا أن شيئاً داخلي شعر بالفرح لأنني سأرى بشراً وسأتحدث معهم وربما سأعرف منهم الأيام .

وفوراً اخرجوني الى السجن , لم يكن كما توقعت فقد كنت أسمع أن السجن مليء بالناس ولا مكان لتنام فيه من كثرتهم , لكن هذا السجن ليس فيه الا اثنان أنا ثالثهم , ولم أستلطفهم فأسئلتهم كثيرة حاولت أن اتجنبهم الا أنني شعرت انهم يهمهم أمر تهمتي كثيرا فقد سألوني عدة مرات ومع علمي فإن هذا السؤال ممنوع ما جعلني أشك في أمرهم , فضلت عدم الاحتكاك فيهم حتى يأتي وقت المحكمة وانتقل الى سجن آخر أجد فيه من يؤنس وحدتي .

“في البوسطة “

يداي مكبلتان وقدماي أيضاً , الشاحنة معتمة ولا وجود للأوكسجين لكثرة الأسرى ولأنها مغلقة .. حتى ظلمتها أعتم من حياتي . مرّ وقت طويل لم أدري كم يوم مر حتى كالعادة يخونني العد كلما سهوت فأنا لشدة تعلقي بالوقت كنت أعد الدقائق ستين ثانية حتى احسب كم مضى على ما يشبه رحلة “الموت” هذه .

وصلنا الى المحكمة و حكم علي “بعشر سنوات “ .

>> مضت سبع سنوات من مدة الحكم >>

كنت نائماً واستيقظت على صراخ رفاقي من الأسرى .. وبعد أن هدأت الاوضاع فهمت أنه تم اصطياد “عصفور” في القسم المجاور لنا في السجن وأنه تم ضربه حتى فقد الوعي و سيأتي الحراس لأخذه بعد قليل .. دفعني فضولي لأراه وهنا كانت الصدمة , انه أحد الذين كانو معي في السجن الصغير قبل محاكمتي , اذاً كان حدسي في مكانه هم ليسو الا عصافير ! وفعلا أكد لي بعض الرفاق أن هذا شيء متعارف عليه انه من الممكن أن يتم وضعنا في هذه الغرف لسحب الاعترافات منا قبل وضعنا في السجون الحقيقية , خطر ببالي أن أشغل المذياع لسماع بعض الأخبار , استعرته من زميلي , في البداية لم يعمل فرفعت “الموجه” خارج الشباك قليلاً لأحصل على اشارة ليعمل .

“هذا وقد علمنا من مراسلنا في مخيم جنين أنه ارتفع عدد الشهداء الى ....”

قطع الصوت ودخلت قوات القمع وضربت كل من وقف في طريقها حتى وصلتني ولم استيقظ الا في العيادة وضلوعي تؤلمني , وحين عدت الى غرفة السجن علمت أن السبب هو المذياع والسلك الذي أخرجته من الشباك وأنه غير القمعة تم تغريم كل من في القسم “250” شيكل .

جاءنا خبر أن أحد الأسرى الذين تم نقلهم عندنا هو من حملة شهادة الدكتوراة ما سيؤهلنا كخريجي بكالوريوس أن نبدأ باكمال تعليمنا وحمل شهادات الماجستير على يده , وفعلا تعرفنا عليه وبدأنا بالدراسة حيث تم توفير بعض الكتب لنا وبعد سنتين حصلت عليها بتقدير جيد جدا ,وتعلمت عدة لغات وطورت قدرتي على الرسم حيث ذهب نصف راتبي من الوزارة خلال كل هذه السنوات ثمن مخالفاتي للرسم على الجدران .

هذه آخر أيام لي في السجن واقترب اليوم المنتظر .. الحرية ..

لا زلت اذكر أول هاتف تلفوني سمح لي به بعد المحاكمة عندما اعطيتهم رقم بيت عمي بدل بيتنا لعلمي أن بيتنا قد هدم وحينها استفسرت زوجة عمي لما لم اهاتف أمي بدلا منهم وعندها صدمت أن أمي والمنزل بخير ! يا له من عذاب نفسي عظيم ما يوضعونا به حسبي الله ونعم الوكيل بهم , ولكن للأسف الان أمي فعلاً تحت التراب ولكن على الأقل سأستطيع شم رائحتها ورائحة والدي في زوايا البيت .

>> بعد عشر سنوات ..

وصلت الى المخيم .. واستقبلني الجميع من أذكر ومن لا أذكر حتى , في البداية واجهت صعوبات في تذكر الأسماء فمن كان طفلاً حين أسرت هو الآن طولي وأطول مني .

ما أثر بي حقاً و جعلني أتعجب أنّ هم الشباب لم يعد فلسطين ولا القضية بل أشياء أخرى لا فائدة منها , لدرجة أني كنت اذا وجدت شابا صغيرا يسألني لو مجرد سؤال عن الأسرى ووضعهم أتمسك به وأتمنى أن يطول حديثي معه لقلة حصول هذا الأمر .

>> عام من الحرية

عدت الى حياتي الطبيعية كل شي تحت السيطرة وتمت خطوبتي من ابنة عمي و انا الان أب لفتاتين حملت احداهما اسم أمي والثانية أسميتها “فلسطين” التي هي قضيتي وكل حياتي .

لكن صدقا ًكم تمنيت أن أرى أمي لأنني على ايمان بأنها الوحيدة التي أكملت عد “كم يوم” قضيت في الزنزانة .

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017