الرئيسية / ثقافة وأدب
صدمة ثقافية ... من جامعة برينستون إلى قلقيلية .
تاريخ النشر: الأثنين 17/02/2014 19:58
صدمة ثقافية ... من جامعة برينستون إلى قلقيلية .
صدمة ثقافية ... من جامعة برينستون إلى قلقيلية .

 فداء داود 

يخيل إليك أنك سمعت صوت انهيار لتمثال الحرية العملاق بشموخه وهيبته ,ومعانيه الملاصقة لفن نحته ومشعل حريته, ولكنها جمجمة لفتى في السادسة عشر من عمره ,ارتطمت في الصباح الباكر بشوارع مدينة نيو جرسي الأمريكية .
غير المارون وجهتهم وحلقوا حولها ،فما إن وقع جسده الضخم بكل ما فيه من حمل على الأرض ,حتى فقد الشعور بمن حوله ،غير آبه إلا بما اختزن بداخله من تناقض وحيرة واشتياق ، مشعلا أملا في  أن يكون هنا في هذا التلاصق الأرضي سببا في ترتيب الفوضى الذهنية التي عصفت بكيانه ,وأن تتدخل العناية الإلهية ليتجرع من كأس رحمتها رشفة تعيد لجسده وروحه الحياة .
وصلت سيارة الإسعاف ,رجعت إلى الخلف شرعت بابيها واجتذبه المسعفون للداخل ، تعرف المارون على هويته من مستلزماته وسارعوا بالاتصال على ذويه ,فهرعوا للمكان كما فعل الطاقم الطبي المسعف ,واجمعوا على ضرورة نقله إلى مشفى (كريستون) ,ثم وبسرعة الوميض أدخل إلى غرفة العلاج النفسي ,ثبت مسبارعلى عظام جمجمته ,بدأت الشحنات الكهربائية بالسريان إلى خلايا دماغه ، لم يشعر بأي جهة في جسده فكل الجهات ليس لها معنى ولا قوة ، وخز بسيط وسينتهي كل شيء ,وستبدو الوجوه المنفرة أكثر ألفة من ذي قبل .
صدمة ثقافية هذا هو المسمى العلمي في الطب الحديث لمرض عامر.*
كان يكتفي عامر* ابن الخمسة أعوام  بالجلوس في الطبيعة الخضراء ,فهو ابن بلدة عزون الواقعة شرق مدينة قلقيلية ,يصنع حديثا مع نفسه أو يقرأ قصة تحت اشجارأحاطت بمنزله ,طفولة مدللة من والدة بسيطة لم تكمل تعليمها ,ووالدٍ يعد مرجعاً ورمزا لأبناء بلدته آن ذاك ,لم يلحظوا أي تصرف غير مألوف أبداً ,غير أن الأسرة قررت الانتقال إلى مدينة نابلس حرصا على بداية جيدةٍ لمستقبل طفلها ,فعامر أصغر أطفالها وما دونه هم أكبر بكثير وقد تجاوزا هذه المراحل الدراسية .
لاحظت المعلمات في مدرسة الراهبات اهتماماته المختلفة عن أقرانه ,فهو يكتب بطريقة مميزة  ,ويكثر من العمليات الحسابية التي تشغل ذهنه وتستحوذ على  تفكيره ,أخبرت إدارة المدرسة عن الطفل المميز ,وطلبت من وزارة التربية والتعليم امتحاناً يختبر قدراته , وكانت النتائج ,عامر وجد في المكان الخطأ انه عبقري ,تفوق على أقرانه بأربع سنوات أو أكثر ,وسيرتفع إلى الصف الرابع الابتدائي , الأمر الذي رفضته إدارة المدرسة حرصا منها على عامر .
لا يحب حياة الاختلاط والانفتاح ,مع أسرته انتقل إلى مدينة قلقيلية ,ليكمل السنة الثانية عشرة من التعليم في ظل ظروف عائلية صعبة ,فقد اضطرت أسرته لتركه في هذه الفترة لتتوجه إلى الأردن لأسباب غير معلومة ,فيما بقي وحيدا يعتمد على نفسه في تحصيله الدراسي وفي منزله ,لم يقوى على المذاكرة أبدا فالحمل ثقيل ولا يقوى على تحمله وحيداً ,لكن ذاكرته كانت لها القدرة على استرجاع ما قاله المعلم بالحرف الواحد أوقات الامتحان ,ظهرت النتيجة وحصل على  معدل 87% في الفرع العلمي .
على مقاعد الجامعة الأردنية اختار عامر أن يكون ,واستطاع شقيقه الأكبر هارون أن يلحقه بالجامعة بعد مضي أكثر من أربعين يوما على بدأ الفصل الدراسي الأول ,كان مفخرة  ونموذجاً لأبناء مدينته في تلك الفترة المفتوحة لإظهار إبداعاته ,لكن الوقت لم يدم طويلاً فقد قرر شقيق عامر  السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية , دونما أي أعذار أخذ  من جامعته ,لينتقل مع شقيقه إلى مدينة نيوجرسي حيث جامعة (برينستون) ,انتقل  حيث العمالقة أصحاب النظريات أمثال جون ناش,وجيمس ماديسون, وريتشارد فينمان ,  فهو لا يقل عبقرية عن السابقين  أتقن اللغة في أسابيع قليلة , أذهل الجميع بقدراته وأعطي الحرية   في اختيار التخصص,فاختار الهندسة الالكترونية ,همس مدير الجامعة في أذن عامر" سنفعل ما في وسعنا لتبقى هنا " مكث عامر عند أخيه فترة من الوقت ,ثم عزم على التفرد في سكن داخل حرم الجامعة ,وعادت المعاناة من جديد ,محيط اجتماعي جديد يقلب حياته رأساً على عقب بلا أسرة  عاد للتأمل , فلم يرى مألوفاً ,ولم  يترك العنان لتفكيره كي يستوعب ثقافة جديدة ,بل يطلق العنان لخوفه واشمئزازه من المحيط الغربي ,وفي كثير من اللحظات كان يصل إلى حد البكاء ,والاستنجاد بالسماء لطلب أمه وأبيه تماما كما يفعل الأطفال .
 صباح يوم جامعي مشمس ,يمسك كتاب الرحمن بيديه كعادته كل صباح ,طالبة  يهودية صهيونية تطلب من عامر أن يقبلها لتكون جليسته ,ولكن الأمر لم يقتصر على هذا فقط , بل طلبت فيما بعد منه علاقة حقيقية حميمة ,متذرعة بانجذابها نحو جاذبيته وتميزه ,فصارت تقبل  كل صباح  لتلقي التحية , لم يستسغ هذا النوع من الفتيات فعقله الباطن يحدثه دوماً بأن لديه رسالة واحدة هي العلم فقط ولا شيء غير ذلك .
استشعر باستمرار إهمال زملائه وعبثهم ممن كانوا في السكن الجامعي ,فقرر أن يطلب سكناً مستقلاً فوقع الاختيار على سكنٍ قريب ,اختاره له شقيقه الأكبر ,وعاش عامر مكملاً دراسته من غير كدرٍ ولا تعب لفترة وجيزة .
سيدة  يهودية عجوز صاحبة السكن الجديد , حيث  يقطن  عامر,كانت تكرم الشاب الوسيم والجار الجديد ,فتضع له الأكل مساء كل يومِ أمام باب منزله ,تاركةً له حرية الخيار في أن يأكل أو يمتنع ,لكنه كان يقدم على هذا الكرم بالإيجاب والاستحباب فيما لم يفكر يوماً أن هذه العجوز هي والدة الزميلة الجامعية التي أقحمت نفسها في حياته ربما حباً أو لغاية . 
علم عامر بالعلاقة بين جارته وزميلته وبأن الأولى أم للثانية ,واستمر في رفضه طلب زميلته الأمر الذي أزعج أنوثتها ومس كبرياءها ,فاختارت طريقا أفضل تستنهض فيه مشاعر الضعف والخوف الموجودة في عقله الباطن , فراحت  تصدر أصوات في منتصف الليل ,متعمدةً إخراج طاقته السلبية ضاغطة على نقاط ضعفه ,رعشة بالأبواب وصفير في النوافذ ,وتقاذف للحجارة على أبواب بيته ,يشعل الأنوار فتعلو وتيرة الخوف والوحدة .

وقع مغمى عليه ذات صباح ,وأجمع الأطباء على حالته المرضية " صدمة ثقافية ", لقد ترك عامر أعز ما يملك ترك والديه ,وهو وحيداً في برينستون ,يتلقى أنواعاً متعددة من العلاج النفسي ,وبعدما قطع وقتا طويلا في العلاج قرر شقيقه أن يعود به للجامعة الأردنية ,ولكنه وصل لمرحلة يستشعر فيها بفارقة عن زملائه ,ولفرط حساسيته من محيطه الذي لقبه بالشخص المريض ,ترك الجامعة للمرة الثانية ,وعاش حياة مرضية مضنية وعلاجا نفسياً استمر لسنوات . 
عاد لوالديه ولكنه عاد ليرتطم بصدمة أخرى ,فمن في مثل عمره أنجز في حياته وعمله ,أما هو فقابع في مكانه والسبب المرض ,حاول أن يلتحق بركب من سبقوه لكن الوقت قد فات والصحة تدهورت ,فاختار لنفسه زوجة علها تخفف عنه من أعباء الزمن وبصمات المرض, ولكن دون جدوى. 
عاد عامر* ليتأمل كعادته من جديد ,ويحاول اختيار ما يتناسب مع وضعه الجديد ,نهض محاولاً استجماع بقايا قوته ,ليجد لنفسه مكنسة يزيل بها مهملات الشوارع ,كما أزالت الصدمة من ذاكرته كل معالم العبقرية . 
*عامر قصة حقيقية لشخصية موجودة وليست من الخيال وبناء على طلبه لم يذكر اسمه الحقيقي يتكلم الانجليزية بطلاقه إلى يومنا هذا وتم نقله حديثا من عامل نظافة إلى مهنة أخرى مراعاة لوضعه الصحي الحرج.
 
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017