الرئيسية / ثقافة وأدب
{نورس} قصة ياسين ابو لفح
تاريخ النشر: السبت 17/05/2014 22:31
{نورس} قصة ياسين ابو لفح
{نورس} قصة ياسين ابو لفح


 

الِإهداء :

إِلى تلك الآتية من الشرق عابرةً نهرَ محبة …. عينهُ عيني .....ماؤُه دمعي….وجسرَُه عمري….. إليها اهدي معاناتي علها تقدر سبب تأخري عن الموعد …. مطلقاً نورسي مُحَمِلاً معه تحياتي وأشواقي لها …..

 

 

سجن النقب الصحراوي                                      

قلعة (ب)                                                                    يس "محمد فرج" أبو لفح

قسم "جـ2"                                                                  5_2_2010

                                                                                 2:23 صباحا

 

 

بعد أسبوع ينهي "نورس" عاما كاملا له في الأسر , "نورس" نزيل أحد أقسام سجن النقب يمضي حكماُ بالاعتقال  "الإداري " دون أن يُدان بأية " تهمةٍ" من" العدل الإسرائيلي" فبعدَ أسبوعٍ من اعتقاله مكثه  في سجن "حواره" القريب من "نابلس" أُصدِرَ بحقِه قرارٌ يقضي بأن يبقى نورس رهنَ الاعتقال مدة ستة أشهر قابلة للتجديد أو كما يقال عنها "ستة أشهر إداري" وفعلا جُدِدَ له وهو في سجن "النقب" إلى ستة أشهر أخرى .

يَعْدُ نورس الأسبوع بدقائقه فأهله  هذه المرة جَزموا ببعض الشكوك أمر الإفراج عنه , وأخوه اشترى له بعض الملابس , ووالده اشترى له احدث الحواسيب أما والدته الصابرة أعدت له أعواد البخور علها تُطيب حجراته فيها , نورس أيضا جيش نفسه بالأمل فهو الآخر هيأ نفسه لبريق من الحرية يعيش نورس آخر أسبوع له وعقله اجتاز الأسوار إلى حارته , وجامعته , وبلده , وبيته يقفز مرتحلا بينها يحلق ما بين أسطحتها مطلقا جناحه في سماء التأمل والأحلام.

"عدد....عدد... عدد" كانت تلك الكلمة تتكرر في السادسة صباحا من كل يوم , وكذلك في العاشرة قبل الظهر , والخامسة عند المغرب  كانت في مثابة جرس إنذار اعتاد نورس ومن معه الاستيقاظ عليه ...  يَخرج جميعهم من الخيام إلى ساحة القسم  يقوم السجانين بعدهم ثم يعودون أدراجهم ... منهم من لبى نداء سريره , ومنهم من لبى نداء لياقته , ومنهم من ناداه إيقاع "زهرة المدائن" , وصوت "فيروز" .    أما نورس ففي اليوم الأول له من بداية النهاية  يجلس أمام خيمتِهِ يرمي ببعض الأرزِ للطيور التي أتته من بين الأسلاك الشائكة تفترس رزقها حتى ولو كان في أرض سجن , كان نورس يُطَير في حب الأرز حباً لأهله وشوقه لهم .

مَرَ يوم نورس وعدده الأخير , وبعد أن عُدَ نورس ذهب لخيمته... كان بعض إخوانه قد جَهزوا طَعام العشاء تناول جميعهم الطعام بعد أن أنهوا طعامهم... ذهب البعض لغسل الأواني , وبعضٌ لتنظيف مكان الطبخ أما نورس فكان ممن بقوا لتنظيف الخيمة... بعد أن أنهى نورس واجبهُ خرجَ للسير في ساحةِ القسم .

أَثناءَ سيره بُلِغَ نورس من قِبل إدارة السجن بأنه سيتوجه في غده  لمقابلةِ ضابط المنطقة التي يسكنها النورس في سجن "عوفر".

بدء التحليقُ مع النورس أَغلبَ إخوانه تفاءَلوا له خيرا , وبعضهم أجمع أنَ هذه المقابلة تكون لمن اقترب موعد إفراجه ونورس لم يبق له من "الإداري" إلا أيام قلائل , سُرَ نورس بما سمع من رفاقه... ذَهَبَ لخيمته , جَلَبَ حقيبة اخذ يُعِدها ببعض ما سيلزمه لرحلة الغد الطويلة , والأفضل أن لا يقال عنها رحلة فالمرتحل فيها لا يكون سوى "طرد بريدي" يوصل إلى المحطة المطلوبة , لذا أطلق عليها "بوسطه" , أعد نورس حقيبته "حرام , مخدة , غيارات , معلبات التونة , والمرتديلا  , والحمص" ومصحف يتعوذ به  وحشة الطريق .

بعد أن تجهز نورس "للبوسطة" بَسَطَ جسده على سريره , أقفل عينيه على حُلُمِ الحرية , كانت شحنةُ الأمل التي اكتسبها من من حوله أعطته ما يكفي أن يستعين به على هَمِ البوسطة .

غزلت خيوط الشمس على وجه نورس نسيج الحرية... لكن زعيق الإنذار – العدد –  قد  ذلك الغزل بعد أن عُدَ نورس, ذهب ليهيئ نفسه للمعاناة بالبوسطة,  اغتسل , بدل ثيابه سرح شعره , لبس حذاءه , حضر كوباً مِنَ الشاي , جَلس برفقةِ حقيبتهِ قريباً من بابِ القسم ينتظر سجاناً يقودُهُ إلى قاعةِ الانتظار أو زنزانةِ الانتظار التي يرتادها كل بادٍ أوغادٍ من والى السجن . أَتى السجان منادياً نورس , أَخرج نورس يديه مِن شقِ الباب قَيَد السجان أَجنحة نورس... , سيق نورس إلى الزنزانة كان قد سبقهُ إليها ثلاثةَ شبانٍ احدهم محطتهُ ستكون "تحقيق المسكوبيةَ" والآخران إِلى نفسِ طريقِ نورس حيث أَن الأَول أَشرف على انتهاء محكوميته نصف شهر أما الثاني  فعشرة أيام  دخل نورس عليهم مسلما - كانت الساعة قاربت العاشرة - بدأ التعارف بينهم ,أخبرهم نورس عن محطته وانه في الاعتقال "الإداري" منذ حوالي عام وباقٍ على انتهاء محكوميته الإدارية أيامٌ قلائل , استبشرَ بِهِ ثلاثَتهم بالفرجِ القريب , ابتسمَ نورس لما بشر به  .

دارت بينهم أحاديث كثيرة ,علَ الحديثَ يخرجهم منَ واقعِ المترين المربعين  إلى واقعٍ أَكثر فسحة , فتحتْ الواحدةُ ظهراً بابَ الزنزانة لتخرجهم منها إلى الحافلة والتي يصدقَ فيها المثل "من برا هالله هالله ومن جوا يعلم الله" , لكن أربعتهم كانوا يعلمون ما داخلها. خرجوا من الزنزانة ليسلموا إلى سعاة البريد "النحشون" لكن كان يفترض أن يلبسوا "إكسسوار" يؤهلهم دخول الحافلة ...قيد يلف أقدامهم... فتشوا تفتيشا سافرا , أُدخلوا الحافلة.... داخل الحافلة زنزانة كالتي كانوا فيها , وخزانة للحقائب بينهما كرسيٌ فخمْ يجلس عليه " البوست مان"- النحشون- ببزتهِ العسكرية وسلاحهِ وهاتفهِ فاصلاً بين خزانةِ الحقائب وخزانةِ الأَسرى.

جلس الأربعةُ على كراسيِ الحديدِ العارية كانت نافذةَ الزنزانة عبارة عن ثقوبٍ صغيرة لا تصلح في غِربال لكنَ حالهم كان يقول "الريحة ولا العدم" , أَخذ أربعتهم يُضخون أبصارهم مِنَ الثقوب يطوون صوراً من وطنهم , يمرون في صحراء النقب وقد عمر فيها المحتل ووثب ...وقفت الحافلة وقد عانقت الساعة الرابعة باب سجن "بئر السبع" أُخرِجَ الأربعة من الحافلة إلى زنزانة الانتظار ليست بأفضل من قرينتها في النقب , كان قد سبقهم إليها أسيرٌ أضرَمَ الشيبُ نارَاً في شعرِه , يوحى من منظره انه في الستين مِنَ العمر , سلموا عليه عرفوهُ بأنفسهم وكذلك هو , سألوا عن محطته فاخبرهم انه منقول لإجراءِ بعضِ الفحوصاتِ الطبية  في مستشفى سجن الرملة , سألوه عن محكوميته رد عليهم مبتسما كأنه في طريقه للبيت "مسكرة" كانت تلك الكلمة تعني في قاموس الأسرى أن ذلك الرجل قد بَلغ قمة الصبرِ الوطني فهو قد حُكِمَ  بِحكمِ الاحتلال "حكما مؤبدا" ليَحكمه الله بما قُدِرهَ له , أُشغلَ الخمسةُ بالحديثِ عن الانتظار المملِ للحافلة التي سيستقلونها للمحطة التالية .

في الساعة السادسة حضرت الحافلة , أُدخلَ خمستهم إليها بأغلالهم .... عاودوا إلى الثقوب طاوين صوراً يعرفون عنها التاريخ الكامل.

وصلت الحافلة "سجن الرملة " في الثامنةِ مساءً أُخرج من الحافلة "المسكرة" وَدَعه الأربعة داعين له , عمقت الحافلة دخولها السجن , أُخرج أربعتهم إلى غرفةٍ في احد الأقسام ...أُدخِلوا الغرفة بعدَ أن نالَ التعب منهم وبعد أن فكت قيودهم .

لم يكن في طاقة نورس ورفاقه إلا أن يحضروا وجبات سريعة , حتى يستلقوا على أسرتهم للنوم فقد كابدوا المعاناة في رحلة  بدأت متاعبها  منذ السادسة صباحا و حتى الثامنة.

في صباحِ اليومِ التالي استيقظَ الأربعة على صوت السجان الصارخ " يلا شباب حضروا حالكم كمان شوي طالعين" كانت الساعة في طريقها للسادسة.

جَهَزَ الأربعة أنفسهم والحقائب , أُخرج من بينهم الشاب المتوجه لتحقيق "المسكوبية" ودعه الثلاثة الباقون داعين له بالثبات , بلغت الساعة السابعة والنصف , أُخرج الثلاثة بعد أن ردت إليهم أَصفاد الأيدي والأرجل , أُدخلوا الحافلة والوجهة سجن "عوفر" .

في تمام التاسعة وصل نورس ورفاقه "عوفر " أُخرجوا من الحافلة إلى زنازينَ تصلحُ بأن تكونَ ثلاجاتِ لحومٍ لبرودتها , كان دفْؤُهم ينبع من صبرهم ومواساتهم بعضهم , مرت الدقائق والساعات حتى طُلِبَ النورس .

فُتِحَت  الزنزانة , أُخرج نورس منها ... أُضيف إلى قيوده عصبةً لعينيه , أخذ السجان يتأرجح بالنورس يميناً ويساراً حتى فكت يد النورس , وأطلقت عيناه على مكتب مغلق ورجل أصلع بلباس مدني , سلم الرجل على نورس معرفا نفسه قائلا " أنا الضابط  منير " مسؤول المخابرات  في منطقتكم "  ثم أضاف ... تفضل اجلس جلس نورس , سُئِلَ من قبل " منير" "قديش ضايلك بتروح؟" أجاب نورس بعربية طلقة لا زَمَت شعرةُ معاوية " ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل !" رَدَ "الأصلع" "إن شاء الله بس أتخلص هذا التمديد رح أتروح " ابتسم نورس في سره قائلاً "إن شاء الله " سأله "منير" "شو ناوي تعمل لما تروح "  أجاب  "ابنَ العشرين" "ناوي ارجع عالجامعة واشوفلي شغلة  التهي فيها " رد رجل المخابرات "بتمنى  منك البعد عن المشاكل " أجاب نورس ":الله لا يعيزنا للمشاكل "قال المخابرتي "منير" "هسا بترجع للسجن بتقعد الأكم من يوم الباقيين لك , وبتمنى ما اسمع اسمك في أي تقارير جاي" .

أُعيدَ نورس كما جييء به , كانت المقابلة رغم قصرها وكأنها التصريح بالإفراج , حتى أنها نسفت أي شك لنورس بتمديد جديد , كانت كلمات "الأصلع" قاربُ النجاة  بعد أن كانت كلمات أصحابه في السجن "قشة الغريق".

دخل نورس إلى الزنزانة كان رفيقيه كنورس , دفأوا بعضهم بالحديث والمزاح حتى حضرت الخامسة مساء بالحافلة المشئومة استقلها ثلاثتهم ووجهتهم سجن "بئر السبع" .

كان الفرح لدى نورس اكبر من أن تحويه زنزانة , مرت الأوقات وكل تفكير نورس ماذا بعد خروجه من السجن " أهله , بيته , جامعته , عمله " سافر إلى هناك وهو في زنزانة الحافلة.

في الواحدة بعد منتصف الليل وصلت الحافلة سجن "بئر السبع" خرج الثلاثة انزلوا في غرفة في احد الأقسام من السجن . من شدة فرح نورس حَضَرَ لصاحبي السجن الطعام , لكن حالما  انتهى من التحضير وجدهما نائِمَين من التعب , أيقظهما أكلا وعاودا النوم , ظل نورس ورغم ثقل التنقلات وكأنه بكامل نشاطه فما سمعه في المقابلة أثلج صدره , لكن عند الرابعة فجرا بطح النوم نورسا.

في السابعة والنصف جاء السجانون لأخذ نورس ورفيقيه إلى زنزانة الانتظار وصل الثلاثة إليها , انتظروا  حتى دَقَت التاسعة , جاءت الحافلة ركبوا زنزانتها والوجهة سجن "النقب" .

كانت فرحة نورس في نمو سريع أصبح يفكر ماذا سيقدم لأصحابه في السجن من حلويات ابتهاجاً لخبر إفراجه , في الواحدة ظهراً وصلت الحافلة "النقب" , أُخرج الثلاثة إلى زنزانة الانتظار , طوت الساعة الثانية دقائقها نودي على نورس , رد نورس مصدر الصوت , أدخلت على نورس ورقة كالتي أتته قبل عام وقبل ستة أشهر كان مفادها تمديد جديد لستٍ أخرى .

أحدَقت الورقة نار اشتياقه للحرية , أسقطت كل ما  فكر فيه - طريق العودة - , اخذ رفيقاه يواسيانه , كانت صدمة لهما أيضاً , هدأَ نورس راض بحكم الله , ادخل قسمه في السجن كان رفاقه لا يعلمون بخبر تمديده , قال احدهم لهم وهو مبتسم " أنا زرت امبارح وحكيت لأهلي يبلغوا اهلك انك مروح " صُدِمَ نورس لما سمع , ذهب إلى سريره غضباناً آسفاً , دخل بعضهم وراءه ... هدؤوا من روعه فهموا ما أصابه , متنوا صبره ......... بعد عدة أيامٍ شُيِعَ  لنورس خَبَر وفاةِ والدته بعد سماعها نبأَ تمديده مرة أخرى , فُجِعَ النورس لما بَلغه لكن لم يكن مَخَلَبَه إلا صلاةً وصبرا ْ.

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017