الرئيسية / الأخبار / فلسطين
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
تاريخ النشر: الثلاثاء 12/12/2017 10:14
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها

كتبت ايناس سويدان وبراء ابو حماد واثير باسم
كانت جالسة على ذلك المقعد الخشبي، والشرود يملأ تفكيرها، تطيل النظر إلى ذلك القطار الذي يأخذ معه الكثير من العابرين نحو طريق طويل مجهول، تشرد مستذكرة تفاصيل الأيام الماضية، اللحظات التي رسخت بمخيلتها، تفكر بقرارها المصيري، الذي بدأت عواقبه من هذه اللحظة، لا تعلم إلى أين يأخذها هذا الطريق، يوقظها شجار أطفالها حول قطعة الحلوى تلك، تمسح دموعها بعد غرقها بدوامة الأفكار التي تستوطن عقلها المثقل بالهموم والأوجاع، فيلفتها زوجها محمود، وهو يشير لها بيده بأن الوقت قد حان لعبور القطار، يمسك بأولاده وحقائب السفر الكثيرة، لتتسارع خطواتهم وسط الزحام الخانقة.
كانت المشاهد التي تمر أمام عيني "إيليتا" خلال رحلة القطار، تزرع في داخلها شعور الخوف والقلق، فهي ذاهبة إلى بلاد في النصف الآخر من العالم، لا تعلم عنها غير اسمها، تختلف بدينها وعاداتها ولغتها، مقبلة على أُناسٍ مختلفون كلياً عن بيئتها.

 

إيليتا أربري مرسلي، لم تعد تلك الطفلة التي تركض مسرعة كل صباح نحو حقول القهوة المنتشرة في قريتها "سانتانا"، لتساعد عائلتها في قطف حبوب القهوة، ثم تسارع وقتها للوصول لذلك العمل الشاق في تنظيف الأواني وأرضيات المطاعم، تعود في عتمة الليل، لتجلس وحيدة في غرفتها الصغيرة، كانت طفلة يتيمة الأبوين، تركض خلف زمن لا يسمعها، ليحقق لها حلم صغير أو أمنية، يمر وقتها ببشاعة قاتلة، رغم وجود إحدى عشرة أخ وأخت يشاركونها المنزل، فقد كانت الطفلة الكتومة، لم تكن تخبر أحد عن تفاصيل يومها المرهق، أو تشكو غياب أهلها الذي لا يغفر، أو عن النقص الذي لم تجد من يعوضها إياه، عن الوقت الذي كان من المفترض أن يكون أجمل أيام حياتها، والأيام التي سرقت قبل أن تصحو من نومها، أو عن الدمية التي كسرت قبل أن تصل إلى حضنها لتحتضنها وتنام بسلام.
يمضي الوقت خلال الرحلة بشكل بطيء، تنظر مبتسمة إلى وجه زوجها الذي لطالما أحبته، تعود بالذاكرة إلى مكان بعيد، فتتذكر الوقت الذي عرض عليها الزواج فيه، تلك اللحظة التي رسخت بمخيلتها بكل تفاصيلها، الشعور الذي صاحبها حينها، والذي لم تجربه من قبل، رجل يحبها ويهتم بها، يسرقها من الكابوس الذي تعيش فيه، يعوضها عن ألم الفقد والفراغ الذي يملأ حياتها، لم تنسى اليوم الذي تقدم لخطبتها فيه ذلك الرجل الثلاثيني، المسؤول عن المحلات التي تعمل في تنظيفها، صارحها منذ البداية عن حبه واهتمامه بها، وعن مشاعر الصدق اتجاها، أخبرها بأنه متزوج من امرأة عربية أخرى، وأن زواجهما سيسهل عليه الكثير من الإجراءات بسبب الإقامة في بلد أجنبية مثل "فنزويلا"، لم تعطي موضوع زواجه الأول اهتمام، فقد كان الزواج من أحد العرب الذين عرفت عنهم صفات الشهامة وحرصهم على زوجاتهم وأبنائهم فرصة ذهبية، لم تفكر سوى بالهروب من واقعها، وأن هذا الزواج سيخفف من العبء المادي على عائلة مثل عائلتها، تعتمد على العمل في حقل القهوة لتعيل نفسها.

دقت عقارب الساعة لتخبرها بأن لحظة زفافها اقتربت، تنظر "إيليتا" بعينيها الخضراوتين إلى فستانها الذي ستزف به، طرحتها السوداء "كما هي العادة في الديانة المسيحية "، كعبها المرتفع، ومساحيق التجميل التي لم تعتدها، تعبر الممر الطويل ودقات قلبها تتسارع، ليعلن زواجها من الرجل الشرقي محمود ضميدي في تاريخ 1962م.
لحظات لن تتكرر..
كانت اللحظات التي يمرون بها تخبرهم بطريقة ما أنها لن تتكرر، فقد شاركهم أطفالهم مشاعر الحب والأمان في ذلك البيت، بعد أن أنجبت إيليتا "جميلة، أمينة، كمال، وناصر"، عاشت بسعادة عوضتها عن الماضي وما مرت به، كانت تلك الفترة من أفضل الفترات التي عاشتها، ظنت بأن الحياة ستقف في صفها حتى النهاية، كانت تلك المرأة التي يتسع قلبها للجميع بحنيتها وكرمها، تعيش حياة سعيدة مع أطفالها وزوجها وأهلها الذين كَبُرت بينهم، حتى أتى اليوم الذي أعلن فيه محمود عن نيته بالعودة إلى بلاده العربية فلسطين، وبيته في قرية حوارة، حتى يربي أطفاله على الدين الإسلامي والعادات المحافظة، ليجعل "إيليتا" تختنق بالحيرة التي وضعها بها، هل تختار أطفالها وزوجها وتسافر معهم إلى ذلك المجهول، أم تبقى مع أخوتها وتعود لحياتها السابقة!

بدأت المشاكل والضغوط تتزايد في البيت، حتى دخلت إيليتا في حالة اكتئاب نفسي لا يحتمل، تفكير لا ينتهي، وغصة تكاد أن تقتلها، انتهى بها القرار لتخوض رحلتها مع زوجها وأولادها في البلاد العربية، فكانت الكلمات الأخيرة التي نطق بها إخوتها "إحنا ما عنا أخت اسمها "إيليتا"، أختنا ماتت".
تبرأ أهلها من وجودها، وكأن النبض والحياة توقفت في داخلها، كيف يكون الإنسان من دون أهل، كيف ستكون الحياة في تلك البلاد، ما المفترض أن تفعل مثل تلك المرأة في هذه الحالة، وإلى أين المفر؟
بداية الحدود العربية..
"أهلا بكِ في الأردن" ترجم لها زوجها اللافتة المقامة على بداية الطريق، ليتضح لها أنها وصلت إلى البلاد العربية، وذلك في عام 1968، تنظر وهي في الحافلة إلى ما حولها بلهفة واستغراب، الجبال الشامخة بأشجار الزيتون، كل تلك التفاصيل التي لفتتها ودفعتها للحديث عنها باندفاع مع زوجها محمود، حين وصلت بدأت بالتعرف على أقارب زوجها، لم يكن ذلك بالوضع السيئ، فقد أحبت المكان وأحبت أقاربها الجدد، وكان الجميع يسعون للاهتمام بها، وإرضاؤها هي وأطفالها.
كانت ابنتها جميلة، ذات الستة أعوام، معجبة بالملابس العسكرية التي كان يرتديها أبناء عمها، والفدائيين الذين يتجهزون للقتال في فلسطين، لباس الصاعقة، الخناجر، القنابل اليدوية، والأدوات الحربية البسيطة، التي لم تكن تفهم لما هي؟ ولماذا يتدربون على القتال دائماً؟ كانت تكتفي بمراقبتهم عن بعد بإعجاب.



كانت "إيليتا" سعيدة، بعد أن رأت أطفالها فرحين يشاركون من حولهم تعلم تلك اللغة العربية التي لم تعتدها بعد.
مكثوا في الأردن ما يقارب الخمسة شهور، بسبب الأوضاع الصعبة التي مرت بها فلسطين سنة 1968، خاضوا العديد من التجارب في محاولة الدخول إليها، إلى أن تم الأمر دون دخول زوجها محمود معهم، وذلك بسبب رفضه للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، طُلِب منه أن يحضر لهم "قلمين" في كل مرة يمر بها على الحدود، والمقصود بذلك أن ينقل لهم أخبار الفدائيين في الخارج، وما يدور في تلك البلاد الأجنبية من أحداث، كانت عواقب رفضه هي عدم السماح له بالدخول، والمعاناة التي لحقت بعائلته بعد دخولهم الحدود إلى الضفة لوحدهم، فقد كان محمود الضميدي أحد أكثر الرجال الفلسطينيين نخوة وشهامة وتعلقاً ببلاده، يحبها للدرجة التي تمكنه من فعل أي شيء في سبيلها، لم يترك أي فرصة من الممكن من خلالها أن يقدم شيئاً لوطنه إلا وشارك بها، كما خدم في الجيش الأردني لسنوات عديدة، حتى ترك بصمته الخاصة ضد جيوش الاحتلال الإسرائيلي.

أكملت السيدة الأجنبية الطريق الطويل وحدها مع أطفالها الصغار في تلك البلاد الغريبة بالنسبة لها، وما أن وطئت أقدامهم أرض فلسطين حتى أدهشتهم سنابل القمح الذهبية التي حان موعد حصادها في شهر حزيران، كانت تضاهي أشعة الشمس بنورها، متسعة إلى مدى لا يعلمون حدوده، كانت عيناها تائهة متيقظة تستكشف كل جديد تقع عليه نظراتها.
بدأت دقات قلبها تتسارع حين قال لها صديق زوجها، الذي عاد معهم من فنزويلا، ورافقهم الطريق من الحدود في عام 1969، "نحنُ في حوارة"، كانت خائفة من شيء تجهله، ازداد خفقان قلبها عندما وصلوا بوابة بيت زوجته الأولى"رقية"، بيت حجري ضخم تمتد من حوله الأراضي في كل الاتجاهات، كانت البداية تشير لهم بأن وجودهم غير مرحب به، امرأة ذات ملامح حادة، تغيب عن وجهها ملامح الارتياح والفرح في ذلك الوقت، تجلس أمام موقدة النار التي كانت تعد عليها الغداء، تحمل من الغضب ما يمكنها من فعل أي شيء، لتظهر لهم بأن وجودهم لا يعجبها، لم يكن أمامها إلا أن تلطخ وجهها بالدخان الأسود المخيف، تخفي بذلك تفاصيل وجهها وملامحه، ليبقى الذهول والاستغراب على وجوه "إيليتا" وأطفالها.
أوصل صديق زوجها الأمانة التي أوصاه بها زوجها محمود، أدخلهم إلى البيت، وتحدث إلى رقية، قال لها بأن ليس لديهم أحدٌ غيرك في هذه البلاد، ويجب عليكِ أن تعامليهم معاملة جيدة، كانت رقية رغم قسوتها حنونة، مناقضة في أعمالها ما تشعر به داخل قلبها، كانت مسيطرة وشديدة ولكن كانت تغلب عليها طيبة قلبها في كثير من المواقف.


الغرفة الضيقة..
فرَّغت رقية "لإيليتا" وأطفالها غرفة صغيرة بجانب منزلهم الكبير، لم تختلف زوايا الغرفة التي حصرت في داخلها عن غرفتها في "سانتانا"، لكن هذه المرة يشاركها أربع أطفال غرفة ضيقة رغم الاتساع الذي يملأ البيت، حاولت زوجة أبيهم أن تبقيهم منغلقين عن الحياة والعالم الخارجي، وبعد أسبوع من وصولهم، كانت رقية تأخذ "إيليتا" معها للحصاد في حقل القمح، كان الحصاد البداية الأصعب على الإطلاق، بالنسبة لامرأة ترى القمح والمنجل لأول مرة، كانت تعود من الأرض والدمع يملأ عينيها، بسبب "الشوك" وسبل القمح الكثير الذي زرع داخل يديها المتعبتان، لم تنسَ طفلتيها جميلة وأمينة ضحكات رقية وابنتها مها على دموع إيليتا في ذلك اليوم!
حاولت النساء في القرية وخاصة القريبات من منزلها أن يعلّمنَ "إيليتا" صنع الخبز، والعجين، وخياطة اللحافات، والكثير من أعمال المنزل، والعادات التي اختلفت تماماً عن العادات التي نشأت عليها، بالرغم من صعوبة اللقاء والمشاكل التي كانت تحصل؛ بسبب عدم رغبة رقية بإقامة "إيليتا" وأطفالها أي نوع من العلاقات مع الجارات المحيطات بها، إلا أنهم كانوا يلتقون سراً في كثير من الأوقات.
كانت طيبة "إيليتا" تزرع في قلب كل من تراهم شيء جميل لا ينسى، تعلمت عادات الفلسطينيين وكأنها منهم، وصلت للمرحلة التي تتقن بها الخياطة لتصنع منها هدايا لكل من يزورها، بالإضافة إلى الماعز، التي استطاعت شرائها بعد بيعها لقطعة صاغة ذهبية كان قد أهداها محمود لها، ربتها خارج منزلها، وكانت تجني منها الحليب ومنتجاته وتتاجر به، حتى تكسب مالاً يسد قوت يومهم، أجبرت على ذلك بعد أن أخذت رقية معظم المال الذي يرسله محمود لعائلته من فنزويلا.
تحدثنا جميلة وأمينة، والضحك يملأ وجوههما، عن تلك المواقف التي كانت تحدث وهم يخوضون التجارب ليتماشوا مع الحياة، تشرد جميلة والبسمة على وجهها مستذكرة اللحظة الأولى التي أعدت لهم فيها أمهم الخبز العربي، "كان اليأس يغلب على ملامحها رغم محاولتها بأن لا تشعرنا بذلك، تملأ المكان وملابسها بالعجين، ليخرج بشكل مضحك كما وصفته " زي الخبيص"، كنا نحب كل ما تقوم به، نأكله ونحن مبتسمون، حتى لا نشعرها بأن ما قدمته لا يكفي لإشباعنا، كانت تكرر صنع الشوربة، وذلك الخبز الذي لم نكن نأكل منه سوى بعض الأطراف الناضجة.

تعلق أمينة: "كنا نادراً ما نشارك رقية ذلك الطعام اللذيذ الذي تعده، نشتم رائحته من خلف الباب، نمازح أمنا برغبتنا الشديدة بالأكل منه، وباختراق الباب للوصول إليه، أو برغبتنا بأن تعده هي لنا، نختلق أي حجة للذهاب عندها في وقت تناولهم الطعام، كانت أمنا رقية تميز كمال وجميلة عني أنا وناصر، فقد كانت تسمح لهم بالأكل معهم ومشاركتهم الطعام دوناً عنا، حتى المعاملة كانت تختلف، كانوا أجمل منّا بعيونٍ ملونة وشعر أشقر، يمكن هذا السبب"!
تتابع أمينة: "استيقظنا يوم الجمعة ونحن مجتمعون في تلك الغرفة، نستعد للصلاة كما علمنا إياها والدي، كان حريصاً جداً على تعليمنا العادات الدينية، كالصلاة وقراءة القرآن منذ الصغر، نسمعه وهو يتلو بصوته الجميل المريح للنفس، قبل أن يستيقظ أحد في البيت، كنا نتشارك الحديث البسيط المعتاد في كل يوم، تنظر إلينا أمي، تحدثنا عن اشتياقها لأبي ولسماع صوته ورؤيته ومعرفة أخباره، أخبرتنا عن شعورها بأنه قريبٌ من داخلها كثيرا للدرجة التي شعرت بأن عودتها إلينا ليست بطويلة".
لم يمضِ أيام كثيرة حتى دق الفرح باب منزلهم، عاد محمود بعد غياب دام أكثر من سنتين ونصف، وذلك بعد إجراء "لم الشمل" الذي قدمته رقية له، تسترسل جميلة في حديثها، "شعرنا بعودته أن القوة والحياة عادت إلى روحنا، كل المشاعر في داخلنا كانت ترقص فرحاً برؤيته، أخبرنا بأنه سيعاود السفر ويطمئن علينا بين الحين والآخر، لم يكن وجوده معنا بشكل دائم، كانت رؤيته ولو بين فترة وأخرى تسندنا وتفرحنا كثيراً، ولكن لم نكن نعلم بأن بعودته ستبدأ المشاكل في ذلك البيت".
تغيرت أحوال رقية منذ اللحظة التي وصل بها، بدأت مشاعر الغيرة والكره، لأن هناك امرأة أخرى ستشاركها زوجها، لم يكن بوسعها سوى أن تغلق باب المنزل أمامهم، كان محمود الرجل الذي لطالما كره المشاكل والنقاشات، كان قد توقع هذا الاستقبال، ولربما بأسوأ منه، أخذهم إلى بيت قديم قريب من بيته، استأجره من جارتهم "أم أحمد الصراوية"، كان شعور عدم الاستقرار يرافقنا من فترة إلى أخرى، ففي كل مرة يحدث شيء أشد سوءاً لنترك ما اعتدنا عليه وننتقل إلى مكان جديد، ولربما ذكريات وأحداث جديدة.
حاولت رقية أن تفرق الأخوة والأم عن بعضهم البعض، ففي إحدى المرات، عرضت على كمال ذو الخمسة أعوام، أن يترك أمه ويسكن معها في منزلها، وبالطبع كانت قد أغرته بما في منزلها من ميزات وأصناف الحلوى التي كانت أكثر ما يلفت انتباه طفلٍ في عمره، حتى وقف والده بوجهها في آخر لحظة ليمنع ذلك.
تشاركنا البيت بكل حب ومودة، عشنا لحظات جميلة في ذلك المنزل الصغير، كنا نتقاسم الفواكه والخضراوات والحاجيات التي يحضرها لنا أبي، ولكن بعد أن تمر على زوجته التي كانت تختار منها ما هو نافع ومفيد وتبقي لنا بواقي الأغراض، ضحكت أمينة في وسط حديثها لتذكرها طريقة تعبير رقية عن غضبها، "لن ننسى اللحظات عندما كانت تدخل إلى بيتنا وهي غاضبة، لنستيقظ على مطر الفواكه والخضار التي ترميها علينا ونحن نائمون، تطرق الباب بقوة وتذهب، تعبيراً عن غضبها من أبي واحتجاجه عليه، كنا نأكل ما رمته ونحن نضحك ونقول "والله إنه زاكي"، كانت أيام جميلة بالرغم من كل شيء".
حاولت "إيليتا" كثيراً التواصل مع عائلتها في فنزويلا، للاطمئنان عليهم، ولكن محاولاتها كانت دائماً تبوء بالفشل، ولم يجيبوا على أياً من تلك الرسائل التي استمرت بإرسالها لوقت طويل.
بدأت الصعوبة تشتد عليهم حين تم منعهم من إتمام دراستهم في المدرسة، كانت هناك غصة لا توصف، في كل مرة كنا نحاول بها دخول المدرسة للتعلم، ولا يكتمل الأمر، بسبب عدم امتلاكنا الأوراق الثبوتية بأننا مواطنون فلسطينيون، كانت مشاعر الحزن تستوطن قلوبنا، نملك القدرة والرغبة الكاملة على التعلم ولا نستطيع، نترقب الأطفال العائدين من المدارس ونحن ننظر إليهم بحسرة وألم، كنا في بعض الأحيان نخرج غضبنا على أهلنا؛ الذين كانوا السبب في عدم دخولنا إلى المدرسة، كان أبي وأمي فيهم من الحزن ما يكفي، فقد حاول أبي إدخالنا المدارس مرات عدة، رفع قضية وأحضر المحامين للتكفل بهذا الموضوع، الأمر الذي كلفه دفع أموال طائلة، وافق مدير المدرسة على حضورهم للمدرسة يومين بالأسبوع؛ لكي يتعلموا فيها بشكل سري، كانوا يذهبون ويعودون والخوف يملأهم، من معرفة سلطات الاحتلال الإسرائيلي بهم، التي كانت تسيطر على وزارة التربية والتعليم في ذلك الوقت، يخشون أن تعود لإخراجهم من المدرسة، وبعد فترة تراجع المدير عن قراره بحضورهم ليومين؛ لتخوفه من المسؤولية الكبيرة الواقعة عليه، وخرجوا بذلك مرة أخرى من المدرسة، كان الأمل يغلب اليأس في ذلك الوقت، لم يقف إخراجهم من المدرسة في طريق إكمال حلمهم وهدفهم بالنجاح، كانوا يتعلمون في البيت، وحين تسنح لهم الفرصة، يلتقون أصدقاءهم للتعلم منهم، بقي الوضع على هذا الحال حتى نجحت القضية التي رفعها والدها وصدر قرار بدخولهم المدرسة بشكل قانوني عام 1978م،بعد سنتين من الغياب عنها.
نقطة التحول..
مرت الأيام ليكبر الأولاد، وتكبر اهتماماتهم وطموحهم، فلطالما أحب الثنائي كمال وأمينة المغامرات والتجارب، التي كانت تحدث دون علم أحد من أفراد العائلة، فقد كان انتمائهم وشغفهم بالجبهة الشعبية يكبر يوم بعد يوم، مناضلين رغم المصاعب التي تحدث أمامهم، يسهرون في منتصف الليل وهم يخيطون الأعلام، ويحضرون الملصقات، لينشروها بطرقات حوارة، ناهيك عن العقاب الذي ينتظرهم في حال عرفت أمهم بنشاطهم، كانت "إيليتا" رافضة لذلك تماماً، لتخوفها من فكرة الاعتقال التي أودت بمعظم شباب القرية إلى السجون.

كانت أمينة تدرس في سنتها الجامعية الأولى في جامعة النجاح، في الوقت الذي كانت تمر فيه العائلة بوضع مادي سيء، فقد كانت أمهم قد رزقت بمولدتين جديدتين هما كوكب وكوثر، لم يعد ذلك المنزل الصغير بغرفتيه يتسع لعائلة من ثمانية أشخاص، وأصبح من الضروري الانتقال لمنزل أوسع، مما زاد عليهم الأعباء المادية، وجعل وضعهم يسوء أكثر وأكثر، تقول أمينة " كانت أمي تبيع شيء من صيغتها لأتمكن من إكمال التعليم، حتى تلك "الماعز" التي شاركتنا أحداث الحياة، وانتقلت معنا من بيت إلى آخر، انتهى بها الطريق بالبيع لدفع قسطي الجامعي الأول، كنت أذهب إلى الجامعة سراً عن زوجة أبي، التي رفضت فكرة دخول أحد منا إلى الجامعة، أو النجاح في فترة معينة من حياته، كان أبي غائبٌ عنا في تلك الفترة، فقد كانت طبيعة عمله تفرض عليه التنقل والترحال لمدة سنتين على الأقل بين حوارة وفنزويلا، ولم أتمكن في الفصل الدراسي الأول من السنة الثانية من تسجيل المواد ودفع المال، فكان خروجي من الجامعة الخيبة التي لا أنساها حتى هذه اللحظة".
ضَحّى ناصر الرجل الصغير، ذو الستة عشر ربيعاً، بحياته التعليمية في سبيل مساعدة عائلته وأخوته، وعملت جميلة مربية أطفال في روضة صغيرة، لم يتوانى أحد منهم في التضحية في سبيل عائلته، حتى تمكنوا من مساعدة كمال في إكمال تعليمه، ودراسة التحاليل الطبية في جامعة النجاح في نابلس، في الفترة التي ساءت فيها الأوضاع السياسية في فلسطين في عام 1987م، كان كمال كباقي أبناء جيله، الشاب الوطني المتحمس الذي يريد الثورة على كل ما يحدث حوله، حتى علم جيش الاحتلال الإسرائيلي بانتمائه لحزب الجبهة الديمقراطية، ونشاطه المستمر في فترة الانتفاضة، وعدم تغيبه عن أيٍ من تلك المظاهرات التي اندلعت في كافة أرجاء البلاد، كانت مراقبة الاحتلال للوصول له متزامنة مع فترة تكسير العظام، حيث اعتقلت جيوش الاحتلال بقيادة إسحاق رابين، معظم الشباب الفلسطينيين، ومارسوا عليهم أقسى أنواع التعذيب، تم جمع جميع أبناء حواره وأصدقاء كمال، الذي تمكن من الهروب قبل يومين من محاولة اعتقاله الأولى في بيته، وأخذتهم إلى أحراش القرية، ليتم تكسير عظامهم بطريقة لا يمكن للعقل تخيلها، أصبح كمال مطارد منذ ذلك اليوم، مشتت يوم في سلفيت وآخر في ياسوف، كان يحاول سرقة أي لحظة للوصول لعائلته وطمأنتها عليه، إلى أن تم اعتقاله في تلك الليلة من وسط منزله، تحدثنا أمينة عن التوتر والقلق الذي مر عليهم في تلك الليلة من عام 1989م، بكاء أمها التي لم تعتد على مثل تلك الأحداث، خوفها الشديد على ابنها، وحرقتها على زوجها البعيد الذي لا يعلم ما أصابهم، كانت الليلة الأشد بؤساً وفرحاً، تناقض في المشاعر، فبين غصتهم على كمال الذي تم اعتقاله وبين فرحتهم على الشهادة بالإسلام التي نطقت بها "إيليتا"، "كانت لحظة تقشعر لها الأبدان، الطريقة التي بكت بها أمي بحرقة ووجع، عندما خرجت إلى سطح البيت، تسمع الأذان، تناجي الله بأن يحميه لنا ويعيده إلينا".
بقي كمال غائباً عن زوايا البيت، لم تصلهم عنه أي معلومة لشهور متتالية، ولم تفق "إيليتا" من صدمتها باعتقال كمال؛ حتى تلقت الخبر الأصعب على الإطلاق، خبر خسارتها التي لم تكن تتوقعها، وفاة زوجها بعيداً عنها، ليتركها تتخبط وحيدة في الحياة، كان موت محمود المفاجئ وغياب كمال الذي طال، دون معلومة واحدة عنه، تكسر الظهر وتحرق الروح والفؤاد ببطء.

وبعد ستة شهور من اختفاء كمال، علموا بالصدفة من أحد أهالي القرية، الذين كان ابنهم في نفس المعتقل مع كمال، أن كمال يتم نقله باستمرار، بين سلطة الاحتلال في الفارعة، وبين المعتقل في سجن مجدو، وذلك لعدم امتلاكه الجنسية الفلسطينية، كان التحقيق مستمر بشأنه، وكانت محاولات زيارتهم له كثيرة، ولم يستطيعوا ذلكَ إلا مرتين فقط، فقد رفض كمال وأهله نظام الزيارات الخاصة، الذي لم يكن شائعاً في تلك الفترة، رداً لشبهة العمالة عن كمال، وبعد عدة محاكم بحقه، قررت المحاكم الإسرائيلية بعد سنة ونصف من احتجازه تسفيره إلى بلده فنزويلا، تصف أمينة وهي غارقة بالتفاصيل التي حدثت في ذلك اليوم، اللحظة التي كان اليأس يعتري فيها وجه كمال، وعن فرحتنا لحظة رؤيته، كان يظن أن تسفيره فنزويلا سيكون عند خروجه مباشرة بتاريخ 1993م، إلا أن مشاعر الخوف تبدلت إلى فرح وبكاء؛ بسبب تأجيل سفره لعدة شهور، و رؤيته لأمه وأهله بعد أكثر من أربعة سنوات، وقف كمال في مكان مرتفع وبدء بالتلويح لأصدقائه الذين ينتظرون على شباك المعتقل، ليسعدهم بخبر الإفراج عنه، مشهدٌ لا تراه كل يوم، تصفيق وهتافات ملأت المنطقة، لفرحتهم بذلك الخبر الغير متوقع.
عودة غريبة البلاد
وصل كمال دولة فنزويلا بعد قضائه الخمس شهور بين أهله ووطنه، غُرِّبَ في تلك البلاد بعد ذلك، بدأ حياته من نقطة الصفر، تزوج وأنجب الأطفال، وكذلك الأمر بالنسبة لباقي أبناء "إيليتا"، حيث بدأ كل منهم بتكوين عائلته وحياته الخاصة، أحسوا بأن عليهم تعويض أمهم عن المرارة والغربة التي عاشتها، بمحاولة إرجاع علاقة حسنة مع أهل أمه في فنزويلا، أمهم التي باتت وحيدة بعد زواج أبنائها، وموت زوجها، كانت بداية التواصل صعبة، بسبب رفض أهلها فكرة إعادة العلاقة معها بعد ذلك الغياب، وبعد محاولاتها الكثيرة وحديثه الطويل معهم، حنَّ قلبهم عليها، كان وقع المفاجأة على "إيليتا" كبير، عاد لها الأمل بعد تلقيها خبر رؤية أهلها التي كادت أن تنسى ملامحهم بسبب ذلك الغياب الطويل.

تقول أمينة:" ودعنا أمنا ظناً منا أنها المرة الأخيرة التي سنراها بها، وأنها ستطيل عنا الغياب كثيراً، سافرت في عام 1994، لترى أن حياتها لم تعد تنتمي إلى تلك البلاد، فقد كانت أمي المرأة الملتزمة في دين الإسلام، ترتدي الحجاب الكامل، وتؤدي صلاة مخالفة لما هم عليه، لم تعد تتقبل ذلك الانفتاح المتواجد في تلك البلاد، تشعر وكأنها غريبة عن كل ذلك العالم، تراسلنا وهي تبكي لتخبرنا بنيتها القريبة بالعودة، تفاجئنا بهذا الخبر، لم تقضي في تلك البلاد أكثر من أربعة سنوات، توقعنا أننا لن نراها إلا بعد زمن طويل".
الوداع الأخير..
تكمل أمينة: "استقبلنا أمنا من السفر ونحن لا نصدق عودتها إلينا من جديد، كنا نجتمع حولها دائماً، تَسِعُ بقلبها وبيتها الجميل المليء بالورود كل أفراد العائلة، لم نتركها يوماً لوحدها، لم تكن على ملامح أمي أي نوع من المرض، ولكن كان هناك سعال لا يفارقها".


ذهبنا بها إلى الطبيب، لأتلقى الفاجعة التي زرعت في صدري أوجاع الدنيا،، قال لي" أمك مش رح تعيش أكثر من شهرين"، كيف يقول الإنسان كلام مثل هذا بتلك البساطة، كيف له أن يخبرني بأنني سأفقد روحي بهذا الشكل، بدأت علامات الذهول والخوف على وجهي عندما أخبرني بأنها مصابة بسرطان الرئة وأنها بمرحلة متقدمة من المرض وليس بوسعنا أن نفعل شيء لها .
مرت الأيام، بدأ التعب يظهر على ملامح أمي وأسطوانة الأكسجين لا تفارقها، صوت القرآن الذي لم يكن ينطفئ من ذلك البيت، زيارات الجيران التي لا تنتهي، هَزَلُنّا وتعبُنّا ونحن نراها تفقد صحتها يوماً بعد يوم، ولا نستطيع فعل شيء واحد يخفف عنها ذلك الوجع اللعين، نتوجع لوجعها، نبكي حرقة خلسة منها لكي لا تشعر بنا، نشاركها اللحظات الأخيرة، لتخلد في ذكرتنا دون أن تمحى .. فقدنا أمنا بتاريخ 2-9-2002، أغلقت عينها وقلبها لتبقى روحها في داخلنا إلى الأبد.

 

المزيد من الصور
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
إليتا غريبة البلاد وصديقة أهلها
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017