الرئيسية / الأخبار / فلسطين
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة
تاريخ النشر: الجمعة 05/01/2018 18:29
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة

كنت حين تمشي في أزقته تسمع صوت المآذن تصدح بالتهليل والتكبير وقراءة القرآن الكريم، ومكبرات الصّوت تجوب الشوارع تحضّ على الثبات والمقاومة ودحر المحتل، والسيارات تضجّ بالأناشيد الثورية والوطنية، وعلى الجانب الآخر تبصر النساء يكبرن ويزغردن من شرفات منازلهن، يخالط ذلك كلّه صدى الصواريخ والقذائف والرصاص والآليات العسكرية التي اجتمعت لتدّك بقعةً لا تتجاوز مساحتها الكيلومتر مربع، لكنّها تدرك جيّداً كيف تدحر أعداءها وتسجّل بدماء أبناءها على صفحات التاريخ صموداً لم تحققه كبرى الدول العربية أمام الاحتلال الإسرائيلي، إنّ هذه البقعة هي مخيم جنين.
فمع كلّ مقارعة تحدث بين شبّان المخيم وقوات الاحتلال يمّر على ذاكرة أهله شريط أحداث الاجتياح الذي وقع في أوائل شهر نيسان من عام 2002م في إطار عملية السور الواقي الانتقامية، التي قادها رئيس وزراء الاحتلال آنذاك "أرائيل شارون" على الضفّة الغربية؛ ردّاً على العملية الاستشهادية التي نفّذها عبد الباسط عودة في فندق بارك بمدينة أم خالد "نتانيا" بتاريخ 27/3/2002م، وفي محاولة لاستئصال المقاومة الفلسطينية وكسر شوكتها والحدّ من عملياتها الفدائية.
بداية الاجتياح...
مع بزوغ فجر الثاني من نيسان عام 2002م باشرت قوات الاحتلال بإحكام حصارها على مخيم جنين بالآليات العسكرية وقطعت عنه الكهرباء والاتصالات والمياه تمهيداً لاجتياحه، وحشدت مئات الجنود والدبابات والجيبات العسكرية لتدمير المخيم.
الحاجة وجيهة "أم الشهيد محمد طالب" تروي فصول قصتها مع الاجتياح حيث تقول: "كنّا على علم مسبق بأمر الاجتياح، وندرك حجم الإجراءات التي سيتخذها العدو لإخضاع المخيم، لذا لم يكن الهجوم مفاجئاً، فجميعنا مستعدون من الكبير إلى الصغير ومن المرأة إلى الرجل، وقد هيأنا أنفسنا من ناحية العتاد والسلاح والطعام والتموين قبل حدوثه بمدّة".
وتضيف أم محمد: "كنت أقطن حينها في حارة الحواشين والتي كان لها النصيب الأكبر من القصف المدفعي والهجمات الجوية والاشتباكات؛ نظراً لكونها معقل المقاومين ومرفأهم، ولم أكن بمعزل عن الحركة المقاومة، فقد حملت السلاح وعاونت المجاهدين وخصصت منزلي كمأوى لهم، ونذرت نفسي لخدمتهم من ناحية توفير الطعام والشراب وإمدادهم بالمعونات، بل ومراقبة الطرقات لهم وتزويدهم بالتطورات التي تحدث في الخارج حين يكون الضرب حامي الوطيس".
لم تقتصر مهمة إعداد وجبات الطعام وإيواء المجاهدين على الحاجة وجيهة فقط، بل كان في المخيم ثلاثة بيوت بمثابة مقرات تغذية أساسية للشباب المقاومين وهي -إلى جانب منزل "أم محمد طالب"- منزل "أم محمد أبو سرية" ومنزل "صبحية العمار"، وكان هذا كفيلاً بتعريضهم لخطر القصف والقنص، ولعلّ أكثر قصة يذكرها المخيم في هذا الصدد استشهاد مريم الوشاحي وهي تعدّ الطعام للمجاهدين، حيث أصيبت بشظايا قذيفة أطلقت عليها من شباك "مطبخها" وأردتها شهيدة.
لم تختلف معاناة أم عبد السلام كثيراً عن أم محمد طالب، فهي الأخرى كانت في خضّم المعركة، وتعرّض بيتها للتفجير والتدمير المتكرر، كونها زوجة المطارد "جمال أبو الهيجا".
أمّا عن أصعب ما واجهته تتحدث أم عبد السلام "كان زوجي جمال مطارداً مع المقاومين وكان برفقته أبنائي عبد السلام وعاصم وعماد، أمّا أنا فبقيت في المنزل مع الشق الآخر من أبنائي حمزة وساجدة وبنان، ولعلّ أسوأ ما حصل حينها هو قطع الاتصالات والخطوط الهاتفية والكهرباء، فلم نعد نتمكن من التواصل مع بعضنا البعض، وكنت أسمع خبر استشهاد زوجي وابني واعتقال الآخرين وهم يظنون أنني استشهدت بعد هدم المنزل، نظراً لعدم توفّر أي وسيلة للتيقّن من أنباء الاستشهاد والاعتقال إلّا بعد انتهاء الاجتياح".
الشيخ جمال أحد رموز المقاومة في تلك الفترة، وتعرّض لعدّة محاولات اغتيال واعتقال، كان آخرها بعد انقضاء الاجتياح بحوالي شهر حيث أوشى أحد الجواسيس لقوات الاحتلال بمكان اختبائه - في إحدى العمارات السكنية داخل المخيم- ما مكّن الجيش من أسره فوراً، وهو والد حمزة أبو الهيجا الذي استشهد في مطلع عام 2014م بعد اشتباكات مع قوات الاحتلال في المخيم بصحبة اثنين من رفاقه.
الدبابة مقابل البندقية...
بدا المشهد المقاوم لكل من تجول في أزقة المخيم وحول بيوته المتصدعة واشتمّ رائحة الرصاص، كما لو أنّ لواءً عسكرياً مؤهلّاً هو من كان يدافع عن المخيم، لا حفنة من المقاومين هي من سطر هذا الصمود بلا دعم ولا إسناد.
فمقارنة القدرات العسكرية التي يمتلكها جيش الاحتلال مع ما تملكه المقاومة يبدو مثيراً للسخرية، لأنّ دولة الاحتلال خصصت لقواتها المكونة من لواء "جفعاتي" و"جولاني" و"آجوز" مئات الدبابات والآليات والسيارات العسكرية وطائرات الأباتشي والجرافات، إلى جانب صواريخ الكاتيوشا وعبوات التفجير والقذائف والبنادق والرشاشات والأجهزة الإلكترونية والمعدات الشخصية لكل جندي، وتمّ تبديل الفرق المقاتلة ثلاث مرات، إلى جانب تغيير قيادة القوّة المهاجمة مرتين.
أمّا الجانب الفلسطيني فلم يكن يمتلك سوى "آر بي جي" واحد وبضعة صواريخ كتف ورشاشات وعبوات يدوية محلية الصنع وزجاجات حارقة، وكان عدد المقاتلين أكثر من 200 مسلح، لا يتلقون أي دعم أو مساندة سوى ما يقدّمه لهم الأهالي من إسعاف بدائي -نظراً لمنع الجيش الطواقم الطبية من الدخول- أو ما توفر من طعام وماء.
وبنظرة واحدة إلى ميزان القوى يتبين أنّه لا يمكن بأي حال من الأحوال إخضاع معركة مخيم جنين إلى معيار عسكري واقعي.
عاصم أبو الهيجا يحدثنا عن طبيعة المقاومة داخل المخيم فيقول: "كانت المقاومة موحدة، فجميع الفصائل من كتائب القسام إلى شهداء الأقصى إلى سرايا القدس شكّلت لجان مشتركة وسلّمت كلّ شخص دوره ، حيث تمّ تقسيم المخيم إلى عدّة محاور/ حارات وتقسيم الشباب إلى مجموعات من 10-15 مقاتل، ثمّ تمّ توزيع هذه المجموعات على هذه المحاور والحارات".
"كما شكّلت مصانع أسلحة داخل المخيم، فهذا بيت أمجد الفايد كان عبارة عن مخزن ومصنع أسلحة لكتائب القسام، وقامت قوات الاحتلال بتفجيره فيما بعد".
كانت المجموعات المقاومة قد بدأت بتجهيز العتاد والأسلحة وصناعة القنابل والمولوتوف قبل مدّة، وقاموا ليلة الاجتياح بإغلاق الشوارع والأزقة والإطارات والأكياس الإسمنتية وحفر الخنادق وزرع العبوات للحد من حركة الجيش.
وفي هذا الجانب تستذكر وجيهة طالب أحد أبرز الطرق التي كان يستخدمها المقاومون للتنقل داخل المخيم فتتحدث قائلة "حفر شباب المقاومة المخيم من الداخل بشكل كامل، حيث شكّلوا خنادق وسراديب داخل المنازل تتيح لهم التنقّل من أول بيت في المخيم إلى آخر بيت بشكل آمن، وكنت أنا وزوجي نستخدمها أيضاً عند توزيع الطعام والمياه على المقاتلين".
ويشار إلى أنّ هذه الطريقة -حفر الخنادق- كان قد استخدمها جيش الاحتلال خلال العملية التي أطلق عليها من بيت لبيت، فاستفاد منها مقاومو مخيم جنين وطبقوها.
أمّا فيما يتعلّق بالكمائن التي أعدها المقاومون للجنود، فهي كثيرة على حد قول عاصم الذي تابع الكلام بقوله "كان من أبرز العمليات "كمين 13" في منطقة الجبريات والذي وقع في اليوم التاسع من الاجتياح، حيث راح ضحيته ما يقارب 13 جندياً من جيش النخبة".
حدث ذلك عندما تحصّن المقاومون داخل البيوت المهدمة في حارة الحواشين وحوطوا كتيبة مكونة من 16 جندياً كانت يقوم بعمليات تمشيط ، حيث أصبحت القوّة محاطة من جميع الجهات بكمين دائري فهجم المقاومون على الكتيبة وقتلوا 13 جنديّاً، واستشهد قادة الكمين أمجد ومحمد الفايد ونضال نوباني بالقصف الذي تلى العملية مباشرة.
وخلال تلك الفترة برزت أسماء مميزة تركت بصمة واضحة خلال الاجتياح، منها الشهيد محمود طوالبة والشهيد زياد العامر والشهيد يوسف ريحان "أبو جندل" والأسير جمال أبو الهيجا والأسير علي الصفوري والشهيد محمود أبو حلوة، وغيرهم كثيرٌ مغمورون في الأرض معروفون في السماء.
وانجلى غبار المعركة...
"(ما بطلع من المخيم يمّا غير محرر أو شهيد) كانت هذه آخر كلمات ابني الشهيد محمد قبل أن يخرج للقاء عدوه ويستشهد في المعركة، وقد نذرت ألّا أخرج إلّا محررة أو شهيدة، وهذا ما حصل فبقيت حتى بقي آخر حجر في المخيم، وخرجت منه مرفوعة الرأس مع المقاومين بعد أن جرفوا حارتنا، لأعود إليه بعد أربع سنوات من الاجتياح" تروي أم محمد.
أمّا أم عبد السلام تصف لنا كيف خرجوا بعد أن نفذت ذخيرة المجاهدين وأطبق الجيش على المخيم بأسره، فتقول "خرجنا حفاة الأقدام لا نملك شيئاً سوى أنفسنا، ونتحسس أخبار أقاربنا وعائلاتنا الذين لم نسمع عنهم منذ بداية الاجتياح، فجزءٌ منّا رحل إلى جنين، وجزء آخر إلى قراها، ولم نتمكن من العودة إلّا بعد عدة أشهر والبعض احتاج لسنوات".
وبحسب تقرير الأمم المتحدّة فقد هدم خلال الاجتياح 1200 بيت منهم 450 بشكل كلّي، و450 تعرضوا لأضرار كبيرة، و300 أصيبوا بضرر بسيط عدا المنشآت الأخرى.
فيما وصل عدد الشهداء الفلسطينيين وفقاً للتقرير إلى ما يقارب 58 شهيداً وسجّل عدد من المفقودين، أمّا الجانب الإسرائيلي فقد اعترف بمقتل 23 من جنوده، رغم تأكيد المقاومين وإصرارهم على أنّ الرقم أكبر من ذلك بكثير، حيث يقدّر ب 55 جنديّاً حسب شهود عيان من المقاتلين الذين نفذوا الكمائن والعمليات.
انجلى غبار المعركة، لكنّ آثاره لم تنجلِ بل بقيت محفورة في ذاكرة كلّ من عاش أحداثها ووقائعها، وظلّت تبعاتها مسطّرة في سجل الإجرام الإسرائيلي، لتكون خير شاهدٍ على الغطرسة الصهيونية التي لم تذر حجراً ولا بشراً ولم ترحم طفلاً ولا كهلاً، وخير مرسّخ لصمود أهل هذا المخيم ومقاوميه، الذين أبدوا بسالةً وقوة رغم قلّة كلّ شيء.
وللحكاية بقية...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

المزيد من الصور
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة
اجتياح مخيم جنين... أحداثٌ قد تمحوها الأيام لكن لن تمحوها الذاكرة
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017