لا زالت أحزان مها حسن النابلسي مفتوحة على مصراعيها منذ 43 سنة، فتعجز الصيدلانية عن تطبيب دموعها على أختها الوحيدة لينة، ولا تكاد صورة الفتاة النحيفة والباسمة والشهيدة تغيب عنها.
وسردت الشقيقة خلال الحلقة (49) من "كواكب لا تغيب"، التي تنفذها وزارة الإعلام، بصوت منهك شريط ذكريات مؤلم: بدأت قصة لينة بعد أحداث يوم الأرض 1976، حين طلبتها مخابرات الاحتلال للتحقيق أكثر من مرة. وقبل يومين من استشهادها، نزل جندي من نقطة المراقبة الملاصقة لبيتنا قرب مدرسة الفاطمية، وطلب من لينة تعبئة مطرته، فرفضت، وصرخت بأن لا ماء عندهم.
وباحت: خرجت والدتي على صوت لينة، وطلبت من أم فوزي التي كانت تنظف درج الحي أن تلبي طلبه. وأعادت مخابرات الاحتلال أ طلبها للتحقيق ثانية، وهددوها بالقتل، لكنها لم تخف، وردت: إن كتب الله نهاية عمري، فسأموت.
وبحسب الأخت التي تكبر لينة بعامين، فإن كلمات ضباط الاحتلال وتأكيداتهم لها بأنهم "سيطردون كل فلسطيني من أرضة، وسترى إن عاشت بيتًا لمستوطن في كل جبل"، جعلها تتوقف طويلاً عندها، ولم يرمش لها جفن. ولحقت أمي بلينة صباح الأحد 16 أيار 1967 خلال امتحانات الفصل الثاني، وطلبت منها أن لا تذهب؛ خشية تعرض الاحتلال لها، فوعدتها بأن لا تنخرط في المظاهرات، والحفاظ على تفوقها. فردت، "سيدركني الموت ولو كنت في بروج مشيدة."
اغتيال
مما يستعصي على الرحيل من ذاكرة الأخت، كيف أن لينة قطعت حصة الرياضيات في مدرسة الكرمل، بعد سماع إطلاق نار، وخرجت، ولحقتها رفيقتها شروق جعارة. وبعدها، انطلقتا من مدرسة العائشية نحو شارع فيصل، وقصدتا العودة إلى البيت، لكن جنود الاحتلال لحقوا بهما، فاحتميتا بصاحب ورشة حدادة في بداية منطقة الشيخ مسلم، إلى أن غادر الجنود.
وسردت: بعد وقت قصير، لبت دينا دعوة صديقتها من عائلة المصري لتناول الملوخية، فصعدت وشروق إلى منزل المربي أمين المصري، لكن جندي إسرائيلي لحق بهن، وحطم باب غرفة الضيوف، وأطلق رصاصتين على لينا، وهي جالسة على الكنبة، فأصيبت في الجانب الأيمن من العنق والصدر، وتزحلقت واستشهدت على الفور، وسقطت نظارتها، أما شروق فسحبها القاتل بقوة بيدها اليمنى، ونال منها بعدها سرطان الغدد اللمفاوية، ونقلت إلى "هداسا" وحين زرتها، أخبرتني بأنها لن تعيش بعد لينة، ورحلت بعد 40 يومًا.
واستنادًا إلى النابلسي، فإن الشبان حملوا الشهيدة ونقلوها إلى المستشفى الوطني، فتبعهم الجنود، إلا أنهم نجحوا في تهريبها إلى البيت، ووقف رئيس البلدية بسام الشكعة بكل قوة ضد احتجاز الجثمان، وانطلقت جنازة مهيبة للينة، شبهها أهالي المدينة بجنازة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وزادت الأخت: مما سمعنا، فإن قاتل أختنا جندي درزي اسمه حدّاد، أدعى الاحتلال بإصدار حكم عليه بالسجن أربعة أشهر مع وقف التنفيذ. والمؤكد، أن قتل لينة جاء لقمع الهبّة الشعبية في يوم الأرض.
خلود
ولدت لينة في 26 كانون الثاني 1959، وانتزعت المركز الأول في امتحان شهادة الدراسة الإعدادية (المترك) لعام 1971- 1972، ونالت لقب ثاني شهيدة في نابلس بعد النكسة، وغنى لها الفنان اللبناني أحمد قعبور في (يا نبض الضفة) لينا كانت طفلة تصنع غدها...، فيما وصفتها الشاعرة فدوى طوقان بـ"اللؤلوة الحمراء"، وغنّاها الشيخ إمام، وخلّدها الفنان سليمان منصور بلوحة ذاع صيتها، واستذكرها أطباء مصريون بعمل فني مؤخراَ، ونقشت على قبرها كلمات الراحل الشيخ محمد البسطامي:" هنا توارت بجوف التراب آنسة، كالشمس غاب سناها عن فلسطينيا...".
ومضت: يوم استشهادها كنت في سنتي الدراسية الأولى بجامعة دمشق، وعلمت من الأخبار بإصابة أختي، فحزمت حقائبي وانطلقت إلى عمّان، وعرفت في بيت خالتنا أنها فارقت الدنيا.
وتابعت: أسرعت في الصباح إلى الجسر، وحين وصلت أريحا، بدأ السائق بالقلق للطريقة التي سنصل بها نابلس، فهناك شهيدة يوم أمس في الثانوية العامة، والدها معروف ومالك صبّانة في الياسمينة، واسمه حسن النابلسي، فقز الراكب الجالس بجواره، وراح يتحسر على ابنة أبو مصباح، دون أن يعرف أنني أختها، فانفجرت بكاء.
أحلام
ووالت مها: جمعني أخر حوار بلينة قبل سفري، وفيه دعتني إلى إنقاص وزني، وتقليدها برشاقتها، ونقلت لي أحلامها بالسير جانبي في جامعة دمشق، وحبها بدراسة الطب، والتخصص في جراحة الأعصاب.
وبحسب الشقيقة، فقد كانت لينة جريئة، وجدّية، وامتلكت قامة مكنتها من التحليق بكرة السلة، وتأثرت كثيرًا بأمها المربية وخريجة الجامعة الأمريكية حياة النابلسي، فامتلكت لسانًا طليقًا بالإنجليزية، وحجزت مقعد التفوق الأول في صفها، وحصدت أوسمة عديدة، وانخرطت في التمثيل باللغة الأجنبية، والدبكة، وأحبت التاريخ والجغرافيا، وأبدعت في تنسيق الخرز، وجمعت بشغف الطوابع والعملات، وحرصت على الأناقة والترتيب في خطها وملابسها، وأبدعت عزف الغيتار، وأحبت زهر الياسمين، وواظبت على زيارة مكتبة بلدية نابلس، وخلال رحلات عائلتها لمعت بين أخوتها مصباح وفواز ومها في تأمل طبيعة سوريا ولبنان.
وتكمل النابلسي روايتها، بقصة إصرار الشقيقة على تغيير طريقة كتابة اسمها من (لينا) إلى (لينة) يوم عادت شاكية من صفها الثالث عقب قراءة آية من سورة الحشر تشير إلى اسمها ( وما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة...)، طالبة تصويب الاسم لينتهي بالتاء المربوطة لا الألف، وليشير إلى النخلة الصغيرة، وهو ما فعله والدها.
نثر
واستذكرت المربية سحر شويكة ما أبدعته تلميذتها في كراسة التعبير: أطبقت عيني، وتخيلت نفسي علمًا، علمًا يرفرف في الآفاق، وبين خيوط الشمس، يرفرف فوق. وكنت أرى نفسي أرقص فوق زهرات نعشه، أتمايل مع حبات النسيم المتطايرة كنجمة ترقص.
لكن شويكة قالت بعد استشهاد طالبتها: تخيلنا لينة في النص محمولة على الأكتاف.
ومما خطه والدها، قبل رحيله عام 1999: إنني أرى من عين لينة ساحة الأقصى، وكنيسة القيامة تتعانقان وتطالبان بالحق الشرعي والسلام العادل.
وكتب رئيس بلدية نابلس يوم ارتقت لينا: بعد انتخابات دوائر البلدية سنة 1976 بأسابيع قليلة، كأن أول تعامل ساخن مع سلطات الاحتلال، يوم استشهاد لينة، حين فقد شعبنا فتاة مميزة، اغتيلت في بيت صديقتها، بعد مظاهرة طلابية. فقد أراد اغتيالها هي بالذات، حيث كان بإمكانه اعتقالها، لكنه صمم على أن ينهي حياة واعية نشطة مجتهدة محبوبة ناجحة...عرفت قيمة لينا بأعمق صورة عندما زرت المدرسة العائشية، واجتمعت في الساحة مع الطالبات والمعلمات، وكنت أرى الدموع في عيونهن، والهدوء الحزين الذي يحتفظ بلينة.
خلّدت مها شقيقتها فأسمت الصيدلية باسمها، وأعادت وشقيقها مصباح إطلاق لينة على ابنتيهما، وبالتاء المربوطة. لكن الأخت تعيش حسرة كبرى لخسارة شقيقتها، وما يخفف من وجعها أن لينة لا زلت ترفرف في سماء فلسطين، وظل اسمها رمزًا لشهداء الحرية.
وباحت: نتوقف كثيرًا عند الممرضة الفرنسية المتطوعة فرانسواز كاستينا، التي غيًرت اسمها إلى لينة النابلسي، وانضمت لصفوف الثورة الفلسطينية في لبنان، واختفت آثارها بعد مذابح صبرا وشاتيلا. وقد توفيت والدتي عام 2012، وظلت تحمل حسرة أختي حتى الدقيقة الأخيرة، فيما كان أبي الراحل صلبًا ودعمنا لتجاوز قهرنا الثقيل.
يشار إلى أن سلسلة "كواكب لا تغيب" تعيد كتابة شهداء الحرية، وانطلقت قبل أربع سنوات من محافظة طوباس والأغوار الشمالية، ووثقت سير معظم شهداء انتفاضة الحجارة فيها، كما سردت حكاية الشهيدة منتهى حوراني، التي لمعت في سماء جنين كأول شهيدة بعد النكسة.