الرئيسية / ثقافة وأدب
قهوة مرّة بالسكر
تاريخ النشر: الثلاثاء 13/08/2019 18:48
قهوة مرّة بالسكر
قهوة مرّة بالسكر

بقلم: يحيى عقل

أنا من عشّاق الكتب والمكتبات...

فكلما سمعت عن افتتاح مكتبة جديدة هَرَعت لأكون كالمحافظ في قص الشريط الأحمر، لآخذ جولة بين الكتب والكتّاب والرفوف ، لأستنشق رائحة كتابٍ معتقٍ تفتك بي لأتذكّر حبر الأمس وقلمَ اليوم...

لأجد الحبرَ قد خفتَ لونه أو تلاشى و القلم رخيصٌ لا يكتبُ حتى خربشات!

العنوان مكتبة...

و المضمون صيدليةٌ رفوفها خاوية من الأدوية و مليئة بالحفاظات ، ما عادت تبيعُ من الدواء بقدر ما تبيعُ من مستحضرات التجميل لتقبّح صنيع الخالق بدلاً من تجميله! والعبرة بالاستخدام بكل تأكيد...

جولة تلو الأخرى في المكتبات ومعارض الكتب أدخلها بحماسٍ وراحة لأخرج منها بإحباطٍ وصدمة...

رفوفٌ امتلأت بما يسمى بكتب وروايات عاريةِ الغلاف، قبيحةُ العنوان، بائسة التصنيف، عقيمة ركيكة الفحوى إن وُجدت!

ولكن من أنا لأتجرأ وأقول مثل هذا! فتلك الكتب التي أتحدث عنها هي الأكثر مبيعاً ليس في فلسطين وحدها وإنما على مستوى العالم العربي... فلا أحد يسمعني!

فأخرج من جولاتي بين أزقة هذه الكتب العفنة مهرولاً لأقرب طبيب نفسي لأستلقي على كنبته الطويلة المريحة (الشيزلونج) وهو جالس بجانبي على كرسيه الهزاز ومعه دفترٌ وقلم...

وحوار!

 -إذاً يحيى ، هاتِ ما عندك.

 - عسى أن يكون قلمك هذا أفضل من تلك الأقلام الرخيصة أيها الطبيب!

 فيضحك الطبيب قائلاً...

-  لماذا عساك ناقماَ؟ ما الذي لا يعجبك؟

- و ما عساه أن يعجبني أيها الطبيب؟ لقد اشتهرنا بجزالة أدب ولسان مبين لتجد اليوم خرابيش ما هي إلا سبة في الجبين ،  ترعرعت منذ صغري على كتابات وأشعار لأسماء حفظها التاريخ منذ قديم الأزل حتى يومنا هذا ، ليقوم خَورُ القراء اليوم بتمجيد حَفنة من المرتزقة اشتروا أصواتهم المنفّرة بقلم بخس وشيدوا مكتبات على شرفها وكأنما تَهدم قبر محمدٍ (ص) لتشيد ملهى لراقصة ترقص على مطلع الأذان! أليس هذا كاف لأكون بين يديك اليوم؟!

  - ولكن يا يحيى ، ألا ترى بأنك تتجنى على هؤلاء بلا حجة أو برهان؟ فتعطي نقدك اللاذع دون أن تقرأ لهم وهذا لا يجوز!

 - حضرة الطبيب ، نقد العاشق حبٌ وأنا عاشق للقراءة ، والقارئ بطبيعته ناقدٌ حتى وإن لم يحصل على اللقب وإضافة إلى ذلك لم أطلب من أحد أن ينشر نقدي في جريدة! وها أنا أتيت لك وحدك لأحدثك عن غصة في قلبي بنكهة نقد وأما فيما يخص القراءة فلقد قرأت قدر كفايتي!

لم أتجنى ولا أتجمل ، فقرأت لهم قدر كفايتي لأسباب عدة لم يكن النقد أولها . قرأت من أكثر الكتب مبيعا وأكثر الكتاب شهرة اليوم ولم أجد نفسي حتى توقفت بعد قدر معين من صفحاتهم كالذي يسمع أغنية بصوت جش فيخفت صوتها أو كالذي يشاهد فيلماً لم يلبث حتى بدأ بتثاؤبه في أول عشرة دقائق ثم نام!

قرأت قدر كفايتي كما قلت حتى أصبح نقدي هذا سبب قراءتي الأول والأخير!

 -ولكن عليك أن تكون واضحاً في نقدك على الأقل، ليس من العدل توجيه تهمة بلا بينة!

 - سلني أجبك.

 - حسنا ، ما الذي لا يعجبك في كتاباتهم؟

 - الكثير! ولا أعلم من أين ابدأ. أتراني ابدأ باللغة العربية التي سحقت كما الأندلس في قلمهم الهش؟ كاللقيطة التي تبحث عن أم لها؟ أم ابدأ بالمضمون الخاوي والعبرة المعدومة والفكر المحدود؟ أم ابدأ بالكاتب المجرد من سمة الكتابة أصلاً؟

 - أحكمتَ عليهم كلهم؟

 - وهل سبق أن فعلت ووجهت أصابع اتهامي لكلهم؟!  تحدثت بشكل عام عن نوعية القرّاء التي للأسف تتناسب مع هذا المستوى من الكتابة السائد لدى حاضرنا وقارنت كل هذا ببديع قلمنا في سابق عصرنا.

 -طالما أنك تتحدث بالمجمل فلقد اتهمت كل كاتب وكتاب جديد!

- كلامي المجمل كان في سبيل المقارنة وبالمقارنة يكون البقاء للأقوى ، وذاك لسادة كتابنا ومؤلفينا وشعرائنا من قبل بلا شك...

رد الطبيب ساخراً واثقاً...

- وطبعا لا تجرأ على طرح الأسماء حفاظاً على دبلوماسيتك صحيح؟

 رددت بثقة ...

- بل أرد عليك دبلوماسيتك! أنا لا اؤمن بالدبلوماسية فهي خراب ونفاق ودمار! غرابٌ ينذر بشؤم! بل اؤمن بما أوصاني به ربي أن يكون لساني حصاني إن صنته صانني ، وأن أكون خفيف اللسان حتى لا ينفضّ الناس من حولي ، وأن أحفظ أدبي حتى في نقدي وشجبي ضمن حدود لغتي.   والأهم أن لا أكون شيطاناً أخرس بسكوتي عن الحق!

لم أحقّر أحداً بشخصه وانتقدت عملاً بأوصاف استخدمها الكتّاب والمؤلفين أنفسهم في ساعات الحزم من قبلي ، فلماذا أهاب ذكر الأسماء إذ ترحل؟

- باسل ومغوار أنت يا يحيى.

 - حضرة الطبيب ، ألم ينه الله عز وجل عن ذكر ما أنفقت يمينك بالخير؟ وعلى النقيض ، ألم يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن امرأة دخلت النار في هرّة؟ كلمتان: سترة وعبرة! ردّها علي الآن إن استطعت!

 -بل أقنعتني يا يحيى ، حدثني إذا...

-  ابدأ بذكر أكثرهم مبيعاً وأبخسهم قلماً ، فلديك مثلاَ عمر آل عوضة و علي نجم وديمي لوفاتو ، أتريد المزيد؟

 - وما خطب هؤلاء؟

  - ليسوا كتّاباً.

 - أوف! هذا تصريح خطير منك يا يحيى!

- تصريح خطير؟! ما بالكم أيها القوم؟ أتراني حين أقول بأن هذا طبيب بيطري لا يصلح لعلاج الآدميين أصرّح خطراً؟ وهل عندما أقول بأن هذا معلم جغرافيا لا يصلح لتدريس اللغة الإنجليزية أصرّح خطراً؟ أحين أقول بأن ذاك شيخ إسلامي لا يصلح أن يكون قسيسا أكون قد صرحت خطراً؟! وبالمثل تماماً ، هؤلاء ليسوا بكتّاب ألبتة.

 - ولماذا؟

 - عمر آل عوضة شاب سعودي ، يظهر على صفحات السوشيال ميديا وأبرزها الفيس بوك بمقاطع فيديو وموسيقى مؤثرة ، ليقتبس لنا حديثا عن النبي صلاة الله عليه ، أو آية قرآنية ويقرأها للناس ومن ثم يعقّب عليها بما كان مفادها أو مضمونها دون اجتهاد حتى!

 وعلي نجم شاب  إعلامي من الكويت ، ولا أعلم إن درس الاعلام فعلاً ، ينشر مقاطع فيديو له على الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي محاولاً تحفيز الناس بلهجة كويتية وديمي لوفاتو مغنية بوب أمريكية...

 -ما زلت لا أفهم . ماذا عن كتاباتهم؟

- عن أي كتابات تتحدث؟ عن تجميع حرفي لما قالوه على الفيس بوك من هراء في كتاب يباع في الأسواق؟ أم عن مجرد اقتباسات لمقولات عالمية لا نعلم إن قيلت على لسانهم فعلا في كتاب تحت عنوان (ابق قويا) ينسب لمغنية أمريكية لتصبح كاتبة؟!

أعاد الطبيب رأسه للخلف متنهداً محاولاً إيجاد تبرير حتى سبقته وقلت:

-  أخشى أن أقول لك (فاطمئن) تحسبه أنت والناس اقتباساً لعمر آل عوضة وتنسى أنه تناص واقتباس لكلام رب العباد! ولكن  فلتطمئن...

هم ليسوا بكتّاب ولا مؤلفين حضرة الطبيب!

أرفع رأسي وأنظر إلى سقف الغرفة ، أتأمل اللمبّات وأتمتم...

-         الانتحار بالشوكولاتة ... أمنيتي أن أقتل رجلا...#44 ...هل أنت حمار شغل ... كيف تحلب النملة...ابنة السلطان...

 

الدكتور مقاطعاً صارخاً...

 

-         يحيى! أتهذي؟!

-         أنا؟ كلا، بل أتمتم بعناوين أشهر الكتب وأكثرها مبيعا!...

 

-         وهل قرأت هذه كلها أيضا؟

 

-         لن أكذب عليك حضرة الطبيب ، بالطبع لم أقرأها كلها ولكن كما ذكرت من قبل قد تصفحت بعضها ، خاصة بعد عناوينها الشيقة كما تعلم!  ألست أنا و أنت حمير شغل؟ فعلي إذا أن اقرأ كتاب (هل أنت حمار شغل؟) حتى لو في سبيل الإجابة لأقول في النهاية : نعم!

 

-         يحيى ، تذكر دوماً : لا تحكم على كتاب...

 

-         من عنوانه ، أعلم! إياك أن تجرأ على تذكير قارئ بهكذا قول!  ولكن وبالرغم من صحة المقولة بنسبة مئة بالمئة لي على الأقل ، ألم يتبادر لذهنك يوما مدى مصداقية قول من يكبرنا سنا بأن الكتاب باين من عنوانه؟! فكثيرا ما نشعر بنذير الشؤم من قبل حدوثه لمعطياته! والمعطيات لدي واضحة لأصدر حكمي ولو كان صحيحاً بنسبة ثلاثين بالمئة! فلديك (كاتب) صنف بأنه من أسوء الأقلام و والله ليس هذا رأي هذه المرة بل أقتبس لك تصنيف مصادر جمة المعروف منها والمغمور تدعي ذلك تحت عنوان (أفشل الكتب)...

 

ومع كل هذه المعطيات يأتي عنوان مجرد من الابداع والمعنى والحياة بل يحرض على السخط والقبح و خُطّ بسخف! فماذا عساني أن أقول؟ ألم تقاطعني أثناء تمتمتي لتسألني (أتهذي)؟ أتُرى لو كنت أتمتم وأقول: كليلة ودمنة و ألف ليلة وليلة والبؤساء ... والله... وتالله... ما سألتني ما خطبك!

 

-         ولكن ربما كان كتاباً هزلياً! فالعنوان يجب أن يكون هزليا. أين حسّ الدعابة لديك يا يحيى؟ فلا تؤخذ الدنيا غلابا...

 

-         عقلاء المجانين لأبي القاسم ، نوادر جحا ، أخبار الحمقى والمغفلين لإبن الجوزي ، البخلاء للجاحظ...

 

 

-         وما بال هؤلاء؟

-         عظيم الكتب بجزيل الكلم لأبلغ المؤلفين بعناوين هزلية مبدعة تدل على فحواها.  ألم أقل لك بأن الكتاب باين من عنوانه أحيانا؟ وبالمناسبة ، قلت لي: بأن الدنيا لا تؤخذ غلابا. فقد حرّفت بعض الشيء في كلمات البيت الشعري لما يفي غرضك وليس لدي مشكلة في ذلك ، ولكن نسيت أن تستهل البيت من أوله: وما نيل المطالب بالتمني!  إن أردت أن تكون كاتباً، فكن القلم ولا تشتر القلم!

 

-         أتعبتني، ألديك ما تضيفه قبل أن نكمل جلستنا؟

 

-         شيء أخير إن سمحت لي...

 

-         قل:

 

-         أتدري ما العجيب بعد كل هذا! بأن كبار الكتّاب والمؤلفين تعرضوا للنقد بل والانتقاد وشتان بين المصطلحين! فكان أياً كان يقوي من عزيمتهم لكي يكتبوا ويبهروك بالقادم وحدث بالفعل.  أما اليوم ومع اعتلاء منصة التواصل الاجتماعي لكل من هبّ ودب ، وبالرغم من حرية التعبير المفتوحة التي ندّعي ، إلا أنني لا أجد مساحة لي للنقد البنّاء! فتجد معجبي ذاك المدعّي الكاتب يهاجمونك بلا بينة بأقبح الألفاظ . هذا إن لم يشتمك الكاتب بنفسه! فلولا الحياء لوضع أحدهم على غلاف كتابه فاتحة سورة البقرة : (ذلك الكتاب لا ريب فيه) !

 

-         حسنا ، فلنكمل. بالعودة لأسماء الثلاثة الذين ذكرتهم من قبل وغيرهم ممن لم تعجبك كتاباتهم ، فلدي سؤالان.

 

-         سلني ما شئت.

 

 

-          ألا تعتقد أنك تقسو عليهم لمجرد عدم حبك لهم؟

 

-         وما علاقة الحب بالمهنية؟ أهناك عربي حر يحب غولدا مائير ولكنه و في ذات الوقت أيستطيع إنكار حنكتها العسكرية؟! ثم من قال لك أني أكرههم؟ على الأقل لا أحب كثيرهم ولكني أحب بعضهم. أي نعم لا أحب علي نجم  وعمر آل عوضة ولكن أحب المغنية ديمي لوفاتو وأسمع أغانيها ، ولكن عندما يأتي اليوم لألتقي بها في الشارع وأشير عليها سأقول: تلك مغنية وبئس الكاتبة اللاكاتبة!

 

هم في النهاية أفراد اعتلوا منصة التواصل الاجتماعي حتى اتفق عليهم البعض واختلف عليهم البعض الآخر وهذا أمر طبيعي للغاية ولكن لا تحشر أنفك في البصل وتشتكي من الرائحة! ليسوا بكتّاب وانتهى.

 

-          سؤالي الثاني: كيف تفسر المبيعات والأرباح الضخمة لكتبهم والإقبال الهائل من الناس لشراء مؤلفاتهم ؟ أأنت الوحيد المتعلم في هذا الزمان لتصدر حكما عليهم على غرار ما يظنه الناس؟

 

-         هذا سؤال بسيط. بداية هناك فرق بين المتعلم والمثقف القارئ ، فليس كل متعلم مثقف ولكن كل مثقف متعلم ! ثانياً : ألا تجني الراقصة أكثر مما يجني المعّلم؟ ألم تحقق هيفاء وهبي في (بوس الواوا) أرباحاً ونسبة مشاهدة أكبر من (الأطلال) لأم كلثوم؟ فهنا علينا أن نبحث عن الجاني الحقيقي.

 

الراقصة تجني أكثر الأموال لأن حولها سكارى يتطوحون بلا وعي أو تدبير! والأغنية الهابطة تلقى رواجاً في مجتمع منحل أخلاقياً عاري الفكر وجش الصوت والكلمات والألحان!  فماذا تنتظر من قارئ في هذا الزمان؟ مراهق أو أياً كان يتابع مغنية أو ناشط مجتمعي فيسمع بأن له كتاباً في الأسواق فيهرع ليكون أول المشترين.

-  أقنعتني.

-  أتسمح لي أن أروي لك حادثة حصلت معي مؤخرا؟

 -  بالتأكيد ، تفضل يحيى.

-   قبل فترة وجيزة سمعت بأن هناك كتاباً جديداً في الأسواق لأحمد الشقيري مقدم برنامج (خواطر) الشهير تحت عنوان (أربعون) فقلت في عقلي لا بد من زيارة المكتبات في أقرب فرصة لشراء الكتاب فلطالما كنت أول متابعي برامج الشقيري وأحترم وعيه وطريقة تفكيره وأسلوب سرده.

فلما وصلت هناك وسألت عن الكتاب وبالطبع هو من أكثر الكتب مبيعاً الآن. أحضره لي صاحب المكتبة بغمضة عين وكالعادة لا أشتر كتاباً قبل أن أتصفح أوراقه وفهرسه ونبذته ومقدمته على الأقل.  

وبعد عشرة دقائق من التصفح حتى ملّ مني صاحب المكتبة ، تحولت ابتسامتي إلى خيبة وقلت لصاحب المكتبة: لا أريده! فدهش صاحب المكتبة وكان يعرفني فقال: ولكن يا أستاذ ، إنه الشقيري! فرددت: والله لو كان لعمر بن الخطاب بمضمونه هذا ما أخذته! فأصاب صاحب المكتبة الفضول وسألني: هل لي أن اسألك لماذا؟ فجاوبت: لأنه مضمونه هو مضمون برامجه ، فلقد قام بكتابة ما قدمه من سيرة حسنة على ورق. وعندما أحتاج لمعلومة كهذه سأتابع حلقاته من جديد ولن اقرأها على ورق!

 -ولماذا تشاركني هذه القصة يا يحيى؟

 -  حتى أثبت لك مجدد أن المهنية لا علاقة لها بالحب. فبالرغم من حبي الشديد للشقيري ولا زال ، إلا أنني لم أجد مضموناً في كتابه كقارئ. ولا تنسى بأن الاسم يبيع . فهو ماركة مسجلة! وهذه إضافة أخرى على ردي على سؤالك الثاني الذي سبق وسألته. كلنا نعرف النازي هتلر وما خلّف من حرب ودمار ولكن تجد كتابه (كفاحي) في أول الصفوف.

لا أقارن بين الشقيري وهتلر بالتأكيد فشتان بين الثرى والثريا ولكن أتحدث عن اسم أضحى ماركة مسجلة.

ضجر الطبيب وقال...

-         يحيى ، لماذا لا تأخذ ما يحلو لك من المكتبة وتترك ما لا ترغب دون نواحٍ وعويل؟

 

 -  ومن قال لك بأن ما يحلو لي متوفراً؟ طلبت مني أختي الصغرى كتاباً فبحثت في مكتبات خمس محافظات عن رواية (لن أعيش في جلباب أبي) لإحسان عبد القدوس فلم أجد له أثراً بل بالعكس ، تأتيك صدمة كبرى عندما يرد عليك صاحب المكتبة بلهجة عامية: مين هاظ إحسان جديد عالساحة؟ وصاحب مكتبة كبير السن في نابلس ينهض عن كرسيه ويحدق في عيني بدمعة ويقول: يااه يا ابني هو في لسا حد بيسأل عن احسان عبد القدوس؟ قديش عمرك؟

 

 هل تجد الشوقيات في كل المكتبات يا حضرة الطبيب؟ ففي آخر مكتبة زرتها كان توفيق الحكيم والعقاد وطه حسين والفرزدق والغزالي وجورج اورويل على الأرض يدوس عليهم المارة في المكتبة و رفّان ذهبيان في الأعلى ل(مدينة الأقوياء) لعمر آل عوضة و (زحمة حكي) لعلي نجم!

 

-          إذا هل تلوم أصحاب المكتبات على هذا التدني والانحطاط؟

 

-         أمتأكد أنك طبيب نفسي أم محام؟ تريد أن توقعني في الزلل وحسب؟ لم أقل هذا! وإن كان هناك لوم على أصحاب المكتبات لترويج مثل هذا كتاب على خلاف ما كان يسمى سابقا ببسطة الكتب عندما كان القارئ قارئا وصاحب البسطة متعصبا محافظا لما يبيع من كتب ثمينة ونفيسة ، ولكن اليوم بالتأكيد لا ألوم المكتبة ولا صاحبها فهي تجارة! إن لم يلق الكتاب رواجاً  لن يبيعه! فالعتب الأكبر على ذاك القارئ.

 

أنا فقط أصف واقعا مريراً بالنسبة لي على الأقل فتشتري (جنة الشوك) لطه حسين وإن وجد بخمسة شواقل و (ابق قويا) بعشرون شيقلا ، وقبل أن تقول لي: عرض وطلب ، أرد عليك: أعلم! ولكن من بُعد فلسفي لي كقارئ فإن هذا موجع على أصعدة جمة.

 

-         أقنعتني يا يحيى ، فبعد حديثك هذا أقول تباً لكل جديد من الكتب!

 

-          لا يا حضرة الطبيب فالقلم لن يجف مع أهل اللغة والكلم وعسى أن يتغير الحال بتغير متغيرات المجتمع والتعليم. وهناك أسماء جديدة بخط عربي جميل وجزل ، قد لا تقارن بطه حسين و حسّان بن ثابت ولكنها جميلة كأدهم الشرقاوي وسعود السنعوسي و واسيني الأعرج وغيره ، فتجد لغة ومضمون.

 

حضرة الطبيب ، لقد كنت أتحدث بشكل متواصل عمن جفّ قلمهم لساعات حتى جفّ حلقي ، فهل لي بشيء أشربه؟

 

-         طبعا يحيى! معذرة لم أقدم لك شيء ، ماذا ترغب؟

 

-         هل لي بفنجان قهوة مرّة بالسكر؟

-         عفوا؟

-         كما سمعت؟ انه لمشروب رائج ومتاح! أليس لديك منه؟

 

ابتسم الطبيب خجلا ورد قائلا...

 

 - بالطبع موجود ، فلتنتظرني بعض الشيء لأحضر لك مشروبك .

 

-         تفضل ، خذ وقتك.

 

وبعد مرور نصف ساعة والطبيب يبحث في المقاهي ويسأل الناس عن مكونات المشروب حتى لا يقع في الحرج ، عاد للعيادة لا يحمل إلا فنجان قهوة مرّ عادي.

الطبيب مخاطباً السكرتيرة ...

-         أين كنت عندما طلب المريض قهوة مرة بالسكر؟ على أية حال ، لا أرى المريض يحيى بالداخل اين هو؟

 

ترد السكرتيرة..

 

-         لقد غادر قبل عشرة دقائق وترك لك الحساب مع ورقة.

-         ورقة؟ و ما بها؟

 

 أخذ الطبيب النفسي الورقة من السكرتيرة وفتحها...

 

-         " ...حضرة الطبيب ، أشكرك على الإستماع لي ، فلم تكن زيارتي لك إيماناً مني بحاجة العلاج مع خالص تقديري لمهنتك ، وإنما لم أجد مستمعاً في المكتبات وقتها! وأعتذر بأنني غادرت قبل إحضارك للقهوة فيا لها من وقاحة ولكن كان الأمر ضروريا ، فلقد وردني اتصال وقت غيابك مفاده أن هناك كتاباً جديداً من أكثرهم مبيعاً في الأسواق اسمه "إكستاسي" يقولون بأن سعره أغلى من سعر الكتب، فخفت أن يكون هناك هدية مع كل نسخة من الكتاب حبوب اكستاسي للهلوسة وأن يكون مروجو المخدرات قد شقوا طريقهم من خلال مكتباتنا و استغلوا وهن كتاباتنا و قرائنا كما أطيح بالأندلس من قبل!  فهرعت لأرى ذلك الكتاب.

أما القهوة، فكانت دعابة مني فكم أتمنى أن تكون قد عدت بخفي حُنين فالقهوة إما مرّة أو حلوة أيها الطبيب ، فلا يختلط الزيت بالماء. وأنا لا أشرب القهوة أصلا، أتريدني أن أستطعمها مرة حلوة؟ سامحك الله !"

ابتسم الطبيب قليلاً وفتح متصفح جوجل الأمريكي على جواله بعد أن أتعبته جلستي ليتابع آخر أخبار الرياضة ، فوجد شركة جوجل تحتفل بذكرى الراحل نجيب محفوظ وما أن سمع صوتاً من شباك عيادته وألقى نظرة منه ليجد غلمان حارته يعلقّون بوستراً لمحمد رمضان وسعد المجرد  بحجم أكبر سدر كبسة في السعودية على سور المدرسة الابتدائية!

 

  

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017