الرئيسية / قسم5
الإعلام وصورة الدم بقلم خالد جمعة
تاريخ النشر: الأثنين 21/07/2014 10:13
الإعلام وصورة الدم  بقلم خالد جمعة
الإعلام وصورة الدم بقلم خالد جمعة

 هناك ثلاث صور هزت العالم في القرن العشرين، إحداها لصبي يهودي وهو متجه نحو المحرقة أثناء الحرب العالمية الثانية ونظرة الرعب في عينيه، والثانية لفتاة فيتنامية تركض عارية والنار تشتعل في ظهرها بعد قصف بيتها بقنبلة نابالم من قبل القوات الأمريكية، والثالثة صورة محمد الدرة، ولو أخذنا عاملاً مشتركاً يجمع هذه الصور، لوجدنا أن جميع من في هذه الصور كانوا أحياء لحظة التقاط الصورة.

من البديهي أن الإنسان الواقع مباشرة تحت المعاناة، يثير التعاطف حين يكون حياً أكثر مما تثيره الجثة، لأن جثة أي إنسان تكون عمليا قد انتهى أمرها من الحياة، وبالتالي لا يمكن أن نفعل لها شيئا، بينما نحس برغبتنا الشديدة في القيام بمساعدة ذلك الشخص المصاب أو المتعرض للخطر حين يكون ما يزال حياً.

إن تكرار صورة الدم على المدى المتوسط، تخلق حالة من التشبع، فيصبح المشهد مألوفاً وبحاجة إلى ما هو أكثر كي يحرك العواطف الإنسانية، وربما يكون في مشهد محمد الدرة وهو في حضن أبيه مثالاً واضحاً على ما أقول، ففي الأيام الأولى للحادثة، لم يتمكن أحد من حبس دموعه حين شاهد محمد الدرة وهو يموت أمام الكاميرا، أما مع الوقت، فقد تحول محمد الدرة إلى مجرد مشهد لا يثير التعاطف، وهذا بسبب الزخم الذي عرضت فيه الصورة على مر الأيام والسنوات.

أما صورة فارس عودة، فلم ينتهي تأثيرها، رغم معرفة العالم بأن هذا الولد الفلسطيني قد استشهد في أحد المظاهرات، والسبب يرجع إلى أن عودة في الصورة حي، يواجه الدبابة، وموته يتركب في مخيلة أي شخص كما يرغب، وتخيل موت شخص، أصعب بكثير من رؤيته ميتاً، لأن رؤيته كميت تضع الخيال في إطار الصورة التي شاهدها العقل وينتهي الأمر، أما حين نسمع عن موته حتى بتفاصيله، فإننا ننسج الصورة التي تبقى أبداً في ذاكرتنا لأننا نحن من صنع هذه الصورة، ولذا فإن المَشاهد التي تحمل صور حذاء أو لعبة أو قطعة ملابسة بعد القصف لها تأثير أكبر بكثير من تأثير الجثة نفسها لأنها تساعد في تشكيل صورة من كان يستعملها قبل استشهاده.

في لندن مثلاً، يتم تدريس لقطة المصور زكريا أبو هربيد التي التقطها على بحر غزة لهدى غالية وهي تصرخ وتنادي أباها، العبقرية في لقطة زكريا، هي في تركه لكومة الجثث التي قتلتها قذيفة البارجة الحربية، ومطاردة هدى "الحية" بالكاميرا، هذا خلق تأثيراً يشق القلب، لم يكن ليحدث بالطبع لو أنه توجه بالكاميرا نحو الجثث، فالجثث لن تذهب إلى أي مكان، ستنتظر إلى أن تعود لها الكاميرا، أما الحدث الحي فإنه يتغير وإن لم يتم توثيقه فسوف يذهب إلى الأبد ولن نتمكن من استعادته، وأنا شخصيا أعجب بالمصور الذي يتجه إلى أم الشهيد وهي تبكي أو يصور ملامح الحزن على أفراد العائلة أكثر من ذلك الذي يتوجه إلى الجثة نفسها، وذلك بسبب فقدان الجثة للحياة، وفاقد الحياة لا يمكنه التأثير كالشخص الذي يتألم لهذا الفقد، هذه المقولة بحاجة إلى التفكير فيها قليلاً كي نصل إلى فهم عمقها، إذ أننا دائما نذهب إلى الجنازات لتعزية أهل الفقيد، لا لتعزيه الفقيد نفسه.

هناك قواعد للعبة الإعلامية، حتى في كيفية استغلال صور الضحايا، وأذكر أن بعض الصحفيين الفلسطينيين اتصلوا بمجموعة من صحافيي أوروبا المناصرين للقضية الفلسطينية يوم استشهدت إيمان حجو، وسألوهم عن أفضل طريقة يمكن عرض مأساة أيمان فيها على الإعلام، وبعد 24 ساعة، اتصل الصحفيون الأجانب، ليقولوا إن أفضل ما يمكن فعله هو وجود أبي عمار جوار القبر ويحمل جسد الفتاة ويسلمها لأبيها في القبر، لكن حين عرض الأمر على أبي عمار، تذرع بالسبب الأمني ولم يشارك في الجنازة، وبعدها بشهرين، قتل ولد يهودي من الخليل، وكان المشهد كالتالي: شارون بجوار القبر يسلم جثة الولد لمن سيدفنه.

إن الدم الفلسطيني المعروض في الصور الكثيرة هنا وهناك ومنذ أزمنة بعيدة، قد جعل النتيجة المرجوة منه تأتي بصورة عكسية تماما، فقد فقدت عين العالم حساسيتها تجاه الدم من كثرة ما رأته، وأظن أننا نعرف جميعاً أننا نفقد طعم الأشياء حين نتناولها بكثرة، حتى حبيباتنا، نمل منهن بعد فترة إذا التصقن بنا 24 ساعة في اليوم، وهذا حال الدم في الصورة الفلسطينية الإعلامية، لقد تحول الدم الفلسطيني من قضية إلى عدد من ليترات السائل الأحمر، ومعه تحول الشهيد الفلسطيني من قصة إلى رقم، مما ساهم كثيرا في تعتيم الصورة الحقيقية لما يحدث في فلسطين على مر الوقت.

شخصياً، لم أشاهد جثة واحدة عرضتها أمريكا لضحايا 11 سبتمبر، ولم أشاهد جثة عرضتها إسرائيل لأحد القتلى أيا كان السبب، لأن هذه الدول التي تملك إعلاماً متقدما، تعرف أن عرض هذه الصور سوف يلغي مخيلة الناس، وسوف يجعل العين والإحساس تعتادان الدم والموت مع الوقت مما يضعف القضية التي تعرض الصور من أجل خدمتها، ويحد المشهد في المرئي لا في المتخيل، لذلك يتحدثون عن المأساة دون أن يبرزوا صورها بالتفصيل، لأنهم يعرفون ما يفعلون.

وحتى في الحرب الأخيرة على غزة، فقد تبارى الصحفيون في التقاط الصور من هنا وهناك للبشر المقطعة أشلائهم، كي يظهروا للعالم بشاعة إسرائيل "كما يظنون"، لكنهم لا يعرفون أن السبب في وقوف العالم إلى جانب غزة أثناء الحرب كانت صور هروب الناس من القصف وبكاء الأطفال في المستشفيات وهم مصابون من القذائف الإسرائيلية، وحتى صراخ الأمهات على أبنائهم الشهداء، هذا ما قاله أوروبيون كثيرون، فمن يظن أن صور الأشلاء المقطعة وصور الشهداء في الثلاجات هي ما جلب عطف العالم وتعاطفه مع سكان غزة أثناء الحرب، فليغير رأيه، أو على الأقل فليبدأ بمراجعة نفسه.

أظن أن الوعي بالمسألة الإعلامية، ومسألة الصورة على وجه الخصوص، عليه أن يكون أكثر دقة، فقد يخذل الصحفي قضيته من حيث يريد خدمتها، وهذا لا يأتي من عدم محبته وولائه للقضية التي يعمل من أجلها، بل يأتي نتيجة اندفاع عاطفي تفرضه اللحظة، فهل منكم من يعتبر أن من صور هدى غالية كان سوف يخدمها أكثر لو قام بإنقاذها من المكان الذي كانت فيه ولم يقم بتصوير ذلك المشهد المرعب الذي هز مشاعر العالم بأكمله.

 موقع " هنا القدس" بتاريخ 10 يونيو 2014

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017