الرئيسية / ثقافة وأدب
جمر المحطات: عذاب حواس تتمزق بين سطور كتاب!
تاريخ النشر: الأحد 01/03/2020 20:01
جمر المحطات: عذاب حواس تتمزق بين سطور كتاب!
جمر المحطات: عذاب حواس تتمزق بين سطور كتاب!

تحسين ياسين
مدريد
حجز الكاتب الفلسطيني بسام الكعبي في وقت مبكر، مقعدًا مميزًا في الصحافة المكتوبة أسوة بكتاب مرموقين على المستوى الفلسطيني والعربي، وقد تجلَّى ذلك بكتبه التي نشرها في السنوات الأخيرة، وتناول فيها فنون الكتابة الصحفية، ناشراً في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي مجموعة من القصص الصحفية، وعشرات النصوص السردية المفتوحة، وقدَّمها خلال مسيرته المهنية الطويلة.
وظَّف الكعبي في كتابه الأخير (جمر المحطات) الصادر في حيفا سنة 2019 عن ( مجد للنشر) أدواته الكتابية لصياغة تقديم طويل عن أدب السجون في فلسطين والعالم العربي والعالم، وحرك في نصوصه السردية الحواس واستنطقها، وباتت كائنات من لحم ودم؛ ذلك أنها سِير روائية قصيرة بالكم الورقي، مرتبطة بحس إنساني مذبوح.
استطاع كتاب وصحفيون الامساك بفن تحريك الحواس، وأحدهم كاتب (جمر المحطات) وقد نذر قلمه للكتابة عن الهموم اليومية لأبناء شعب يغرق بالقهر والعذاب تحت سياط الاحتلال.
نشأ الكعبي(63 سنة) في مخيم بلاطة شرقي نابلس عقب تهجير عائلته قسراً من قرى يافا. حاز على بكالوريوس صحافة من جامعة بغداد سنة 1980، عمل محرراً لمدة سنة في دولة الامارات العربية، وقرر العودة إلى الوطن. إلتحق في جامعة بيرزيت وساهم مع طاقم متخصص بالتاريخ الشفوي بإصدار سلسلة عن قرى فلسطين المدمرة، وعمل محرراً مسائياً في الصحف المقدسية وأبرزها الشعب، الفجر والقدس.
شاركتُ مطلع شتاء 2008 في دورة حول صحافة البسطاء وفن الكتابة عن المهمشين، وذلك في معهد تطوير الإعلام (جامعة بيرزيت) برفقة مجموعة من زملاء وزميلات المهنة. تعلمنا على يد المدرب الكعبي قواعد كتابة القصة الصحفية، وفن توظيف الحواس في الميدان؛ لأن القصة الصحفية نص ميداني بامتياز يستدرج الحواس ويحولها إلى نص مشهدي مكتوب.
للأمانة، يمتلك المدرب أسلوباً بسيطاً ومقنعاً؛ جعل البعض منا يبحر مرة واحدة وباحتراف في هذا اللون الابداعي من الكتابة بعيداً عن الصياغة الخشبية للخبر والتقرير، ويصقل أدوات الكتابة لديه؛ في وقت لم تمنحه مقاعد الدراسة الأكاديمية النظرية فرصة اختبار كتابة جدية ومحترفة في بناء النصوص.
قرأتُ بنهم ما أصدره خلال مسيرته المهنية، وآخرها كتابه (جمر المحطات) والذي وزعه مجاناً على المهتمين، وهم قلة للأسف، رافضاً بشكل قطعي عرضاً لدار نشر تجارية، حتى يتجنب توظيف آلام الضحايا وعذابتهم عبر بيع كتاب.
قارب الكعبي في سرده الصحفي، مع السيرة الروائية (زنزانة رقم ١٠) للكاتب المغربي أحمد المرزوقي أحد الناجين من سجن تزممارت الرهيب؛ وقد استطاع المرزوقي ببراعته السردية توثيق يوميات تسعةٍ وخمسين ضابطًا إلتهم المرض والجوع والقهر نصفهم خلال رحلة عذاب قاسية استمرت عشرين عامًا.
تضمن (جمر المحطات) عشرين فصلا؛ تعرض فيها القارئ للحصار والاستدراج حتى آخر حرف فيه؛ بتوقيع صادق متمرس يشغله جدًا فقراء الوطن ومناضليه. في السيرة الروائية لشقيقه المعتقل عاصم الكعبي، أطلعنا بأسلوب مبهر على يوميات عذابات ذوي الأسرى في رحلة الوصول إلى أبنائهم المعتقلين خلف جدران الإسمنت والقهر: قسوة الطريق، عذاب الوقوف خلف الزجاج البارد، الاحتكام لهواتف يتعمد جلاوزة الاحتلال إعطابها أثناء تبادل الحكايات مع قامات صلبة، قهر مسافات الوقت والجغرافية.
مؤلم أن تغرق هذه الكتابات الإنسانية في اليُتم، ولا تشق طريقها إلى ألاف القراء في وقت ازداد فيه إيقاع الاعلام الرقمي السريع وتسطيح المعلومة، وأنت الذي تحتكم إلى لغة متينة، رصينة، في زمن توسعت فيه رقعة مذبحة الأخطاء اللغوية والإملائية، وقد أكدت لي دومًا أن زمن المطالعة بدا في محطته الاخيرة نحو الغياب؛ انه موت شغف البحث عن النصوص الأدبية ومطاردة المعلومة.
ما زال أبطال( جمر المحطات) مصلوبين كقديسين على طريق آلامهم: أحمد سعدات، عاصم الكعبي، نائل البرغوثي، حسين ابو مهيوب، عاصم البرغوثي، وليد دقه، هشام الكعبي..والقائمة طويلة جداً، فيما غادر البعضُ الآخر في رحلته الأبدية. إنها حقًا، جمر محطات تلظت بها قامات وطنية مناضلة، أخذت على عاتقها في زمن الاحتلال والاستيطان مواجهة المحتل، وحمل أيقونة الكفاح لانتزاع حقوق شعب تعرض لنكبة كبرى، وطرد قسراً من وطنه.
نومًا هادئًا لأيقونات طريق الآلام: والدتك، وأم عمر البرغوثي وأم مهيوب، في رحلتهم الأبدية، العمر الطويل للوالد شيخ الانتظار! للغائب سامي الكعبي "إكليل غار فوق ضريح رفيق يرقد طاهرًا في منفى بعيد"، الفرج العاجل لأيوب النقب عاصم، ولقامات حوَّلت قيودها إلى مخالب من ورق، وانتصرت على الجلَّاد، وبرقتْ في لائحة شرف للكفاح.

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017