الرئيسية / الأخبار / فلسطين
محكمة سالم: متعة "البواب" بمشهد العذاب! بسام الكعبي
تاريخ النشر: الأثنين 15/09/2014 09:37
محكمة سالم: متعة "البواب" بمشهد العذاب! بسام الكعبي
محكمة سالم: متعة "البواب" بمشهد العذاب! بسام الكعبي

 قرر الشرطي الإسرائيلي فجأة وقف تفتيش النساء الفلسطينيات، قبل بلوغهن المرحلة الأخيرة للانتظار أمام بوابات محكمة سالم العسكرية شمال مدينة جنين، بذريعة أن ضابطة التفتيش  أنهت مناوبتها للبحث عن بديلة!؟ عقارب الساعة تجاوزت العاشرة بقليل من نهار بدا حارقاً منذ صباح الاثنين الثامن من أيلول الجاري. بدأ زفير الزوار يتطاير مع غضبهم وقبضات أيديهم تتحرك في كل اتجاه، تحت كاميرات المراقبة ومتعة المشهد لحراس ساديين، يستمتعون يومياً بعذاب مراجعي مبنى "الإدارة المدنية" في سالم؛ وقد سَلَخت اسمها من قرية فلسطينية داخل "الخط الأخضر" تتلوى غضباً.

 زرع حارس البوابة "العبوة الناسفة" بين جمهور الزائرين؛ بقراره وقف تفتيش النساء والسماح  للرجال بالدخول عبر بوابة التفتيش الالكترونية التي تحتشد عليها نحو عشرين امرأة، لم يحالفهن "الحظ" بعبور بوابة مبرمجة وغرف تفتيش تتنكر فيها كاميرات مراقبة؟! رفضت النسوة  التراجع تحت ضغط بعض الرجال واسناد آخرين للموقف. اندلعت مواجهة حادة بين الرجال، وانطلقت الشتائم دون احترام للضحايا، وبلغت المواجهة ذروتها عندما انفجر أحدهم غضباً، جراء التزاحم الشديد والاختناق القاتل، بشتم غير مبرر، ولولا تدخل أحد العقلاء لانتقل نصف الزوار إلى المشافي بدلا من المحاكم!

طريق "السلامة" إلى سالم!

قبيل السادسة صباحاً رن هاتفي بناء على ترتيبات مسبقة في الليلة الفائتة، وعبر شبكات الخليوي تلقيت "تعليمات" سائق العمومي محمد أبو لبدة بضرورة وصولي إلى مفرق جامعة بيرزيت إذا رغبت بالعودة معه. غادرتُ البيت على وجه السرعة لادراكي أن هذه فرصتي الوحيدة لبلوغ بوابة محكمة سالم قبل الثامنة والنصف، موعد انتهاء جنود الاحتلال من تفتيش زوار المحاكم وفق معلومات المحامي وموظف في احدى المؤسسات القانونية الأهلية التي تتابع قضايا الأسرى. طوال ساعة ونصف لم ننقطع عن الدردشة معاً، كنا وحيدين طوال المسافة التي قطعها بين المدينتين. بدا الخمسيني متحدثاً لبقاً  ومجرباً اختبر مشاكل الحياة وهمومها عبر مهنته التي اختارها مبكراً منذ مطلع شبابه.

في جنين، قطعتُ مسافة قصيرة نحو الحافلات العمومية المتجهة إلى شمال المحافظة، شق الفورد الطريق القديمة التي كانت تربط جنين بمدينة حيفا، قاطعاً بلدات كفرذان، اليامون، سيلة الحارثية ومدخل رمانة، وماراً في أطراف تل تعنك الإثري المرتفع الذي يطلُ على سهل اليامون جنوبي مرج بن عامر. يحتوي التل الأثري الكنعاني على قصور قديمة وأبنية وكهوف محفورة في الصخر، يربطها نظام مائي ويحيطها سور أثري، ويبتعد ثمانية كيلو مترات عن موقع مجدو التاريخي.

من زجاج الحافلة بدت مدينة الناصرة  تبرق فوق عدد  من التلال ترمق سهل مرج بن عامر الواسع (315 ألف دونم) يستلقي بين أطراف بلدات فلسطينية  تناثرت بفعل النكبة والتطهير العرقي.

في نهاية شارع طويل ومهجور، أقام الاحتلال مبنى عسكرياً أطلق عليه "الادارة المدنية"، وصادر الأراضي من قرية زبوبة، قاطعاً الطريق بأسلاك شائكة وفاصلا التواصل مع قرية سالم الفلسطينية داخل "الخط الأخضر". أقيم للمراجعين مقابل المبنى العسكري "بركس" يتمدد بطول عشرة أمتار وعرض مترين، مظلل فوق مقاعد خشبية كالحة الألوان مثبتة في أرضية من صبة باطون اريقت على عجل، وفي طرف "البركس" حنفية ماء، فيما تطل حافته المرتفعة قليلا على ساحة ترابية واسعة بدت كأنها مزرعة لأعقاب السجائر!

اجتازتْ على التاسعة عشرات النساء الغاطسات بأرديتهن السوداء، بوابة التفتيش الأولى نحو أول غرفة تفتيش، وانتظرتُ بفارغ صبر مع باقي الرجال للانتهاء من تفتيش النسوة في غرفة منفردة تبتعد مائة متر عن بوابة المبنى. أعطى الجندي "تعليماته" بمرور الرجال ضمن مجموعات صغيرة، تسابق الشبان مع الكهول، وتمكن جميع الرجال من وصول غرفة التفتيش تحت أوامر عسكرية لا تنتهي: اشلح القشط والحذاء وافرغ كل ما في جيوبك هنا، وادخل من هناك ثم اعبر البوابة الالكترونية من هنا. لا مرور لأحد دون هذا الاجراء العدواني بذريعة "أمنية"!

قطعتُ عشرات الأمتار بجوار رجال يعيدون ترتيب أحزمتهم وارتداء أحذيتهم، وتحت مظلات واقية للشمس وصلتُ برفقتهم إلى مبنى آخر للتفتيش. صعدتُ مجموعة درجات مرتفعة لأصطدم بعدد كبير من النساء ينتظرن اجراءات جديدة: تفتيش، تسليم البطاقات الشخصية، مطابقة كشوف الأسماء بين أسرى محاكم اليوم وذويهم. ضج المكان الضيق بالزوار رجالا ونساء، واختنق الحضور بالسجائر المشتعلة التي تطاردنا في كل زاوية، وزاد الأمر تعقيداً سخافة التعليقات التي يطلقها أحد الشبان بلا كلل! الاجراء العدواني بوقف تفتيش النساء لانتهاء مناوبة الضابطة المسؤولة فَجّر كل الاحتقان الداخلي. بلغنا حافة الاقتتال بالايدي تحت كاميرات المراقبة وتلذذ النظرات السادية من خلف الزجاج الرمادي!

الانتظار تحت حبل مشنقة

درجات قليلة قادتني إلى ساحة ضيقة تفصل بين بوابة حديدية تعزل قاعات محاكم الأسرى عن قاعة انتظار ذوّيهم. ومن طرفها البعيد دققتُ في ارتفاع مئذنة قرية سالم تطل من سقف السماء على المحتجزين في شبك الأرض. أطلتْ سالم من التلال القريبة على الأسلاك الشائكة، وبدت جميلة بقرميدها الأحمر وأشجارها المرتفعة تقاوم المحتل بهوية فلسطينية عربية، عززت  بداخلي تماسكاً لتحمل تبعات معاناة مرتقبة.

  لا يكف جنود الاحتلال عن الصراخ وتعديل الأسلحة على أكتافهم، يتحركون بمجموعات صغيرة منفصلة تحمل كل واحدة قائمة بأسماء أسرى ينتظرهم القضاة. وخلال أوقات قصيرة ومتعاقبة يطلُ أحد الجنود من البوابة وينادي بإسم الأسير، يتجه الأهالي نحو البوابة ويعبرون برفقة الجندي إلى قاعة المحكمة. عبر طاقة مفتوحة في بوابة الحديد، كنتُ أبذلُ جهدي مع آخرين للتدقيق البصري من بعيد بملامح الأسير المربوط بسلاسل تقيّد يديه وقدميه، لعلني أعثر في ممر المحاكم الضيق على شقيقي عصام. مرّ الوقت بطيئاً قاتلا على سيف من حرارة مرتفعة وغضب الحضور كلما أربكهم خطأ  لفظ الأسماء الصحيحة للأسرى بلغة عبرية بائسة. ومع ذلك كانت الأعين تبرق بفرح الخلاص من العذاب كلما قفزت الأسماء من القوائم الثلاثة لجنود الاحتلال. شهدتُ غضب الأهالي بأحكام ابنائهم المرتفعة على لوائح اتهام متواضعة، ولفت انتباهي الغرامات المالية الباهظة التي تفرضها المحاكم العسكرية على "المتهمين"! هل يبحث الاحتلال عن تسديد فواتير احتلاله وبطشه من جيوب ذوي الأسرى والأسيرات؟

هَدأتْ لوعة ترقب سماع الاسماء على الواحدة ظهراً، بخروج القضاة العسكريين في استراحة طويلة للغداء! والتقط الأهالي أنفاسهم قليلا وبحثوا عن مقاعد للاستراحة في قاعة بائسة: تمدد بعض الرجال وغطسوا في نوم عميق. نامت بعض النساء متكئات على أكفهن. تبادل البعض حوارات خاطفة بحثاً عن الهموم المشتركة للمراجعين، وانشغل آخرون في مكالمات خليوية دون نهاية.

مع تجاوز عقارب الساعة محطتها الثالثة عصراً، كنتُ من بين ذوي الأسرى القلائل المنتظرين دون خلاص. وقف المحامي على البوابة، وتوجهتُ اليه طالباً التدقيق في حضور شقيقي عصام إلى المحكمة؛ سجل الاسم على ملفاته بجوار اسم آخر زودته به والدة الأسير، وذهب يبحث عنهما وعاد بعد وقت معتذراً: عصام واياد لم يتم احضارهما إلى المحكمة، وتم تأجيل محاكمتهما إلى أواخر شهر تشرين المقبل؟!

صعدتُ الدرج غاضباً على العجز الإداري للمؤسسة المحلية في توفير المعلومة السليمة لمواعيد المحاكم، وحزيناً على تبديد نهار طويل منهك دون لقاء بصري خاطف مع عصام، وقد غاب عن حواسي منذ منتصف أيار الماضي، عندما داهم جنود الاحتلال البيت في مخيم بلاطة، واعتقلوه فجراً.

 في غرفة التفتيش والمراقبة عثرتُ على بطاقتي الشخصية بين عدد من البطاقات المهملة فوق مقاعد جنود الحراسة، تناولتها وغادرتُ عائداً إلى جنين  ورام الله وقد بلغتها على السابعة مساء. تبخر نهار طويل وقاس دون فائدة، لكن ذاكرتي احتفظت بشريط  حفر معاناة ذوي الأسرى والأسيرات، وبخاصة كبرياء مسن يشق منذ عامين طريق الآلام، ويواظب على حضور جلسات محاكمة نجله بلا كلل؛ لعله يظفر به محرراً؟!

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017