الرئيسية / مقالات
جريمة ساخرة!! صلاح حميدة
تاريخ النشر: الأحد 11/01/2015 20:52
جريمة ساخرة!! صلاح حميدة
جريمة ساخرة!! صلاح حميدة

 لاقى الهجوم على الصحيفة الفرنسية الصفراء "شارل أبيدو" موجة من الاستنكار والتضامن الدولية والإعلامية، ولا يزال التفاعل مع هذا الحدث مستمراً، واللافت في الموضوع هو نوعية المتضامنين مع الصحيفة غربياً وعربياً، بل إنّ هناك من تحمس واعتبر هذا الهجوم اعتداءً على حرية الرأي والتعبير، وأنّه امتداد للفكر "الظلامي" التكفيري المعادي ل" ثقافة الغرب وقيمه الحضارية"!!.

قتل البشر ليست قضية يحبذها أي إنسان، وما دام قتل البشر مرفوضاً من حيث المبدأ ويستحق كل هذه الإدانة فلماذا لم يتجند العالم لاستنكار ومنع قتل المطالبين بحقوقهم والذين تم إطلاق النار عليهم وقتلهم تحت التعذيب من قبل الأنظمة العربية الحليفة لفرنسا؟ أم أنّ هناك فرقاً بين أرواح البشر، وترسيخاً للفوقية العرقية والدينية والمناطقية في تصنيف الناس، وفي تقييم ما يتعرضون له من مضايقات وجرائم؟
أثارت الحادثة تساؤلات حول حرية الرأي والتعبير،  فهل الإساءة للإسلام والمسلمين تقع ضمن حرية التعبير؟ وما دامت المقدسات مستباحة، فهل التعرض لليهودية  والصهيونية  والهولوكوست من ضمن المقدسات المباح الإساءة إليها؟ الأمر لا يحتاج إلى تفسير، لأن النّفاق واضح في هذه المسألة، بل إنّ الإساءة للاسلام تحولت بعد الحادثة إلى سياسة رسمية ممنهجة عبر الدعم العلني للصحيفة المسيئة، في حين كانت قبل ذلك تبدو وكأنها حوادث معزولة تحظى بحماية ورعاية رسمية، وهذا يتزامن مع حالة ارتباك تسود أوروبا تجاه مشكلة الإسلام والمهاجرين المسلمين، فاقتصاد أوروبا ونمو حضارتها بحاجة للمسلمين و لشبابهم، في حين يريدون الحفاظ على منع المارد الإسلامي من النهوض في بلاده ومحاصرة نموه في بطن أوروبا، وهذا خلق لديهم أزمة حقيقية لا فكاك منها لأن الوجود الإسلامي تجذر في أوروبا و أصبح عصياً على التحجيم و الاستئصال.
تشكل العقيدة و الثقافة والعادات الاجتماعية مكونات رئيسية في شخصية أي انسان أو أيّة مجموعة بشرية، ولذلك يشكل المسّ المتواصل والإهانات المتتالية لهذه المكونات والسخرية منها بطرق منحطة استفزازاً لأكثر المناطق حساسية في الانسان، وتحطّ من كرامته، وإن كان هناك من يستطيع الصبر على تلك الإهانات، إلا أنّ الأكثرين لا يستطيعون تحمل هذا السيل من الإهانات، حتى ولو لم يكن متديناً أو كان حديث العهد بالتدين – كحال منفذي الهجمات – خاصةً وأنهم من مواليد فرنسا ويشعرون بظلم الدولة تجاههم والعنصرية التي تستهدفهم وتدفعهم نحو الجريمة والعنف، فيكفي لون البشرة والاسم ليكون الإنسان محل استهداف وسخرية في بلد ولد فيها ولا يعرف وطننا غيره، ومن تابع مكالماتهم الهاتفية مع الإعلام لاحظ أنّهم ركزوا خطابهم على نقطتين، هما: إهانة مقدساتهم وانتقامهم من الذي أهانهاعلى وجه التحديد.
يمكن قراءة هذا الحادث في إطار الانقلابات التي يقودها الغرب عبر أدواته ضد طموحات الشعوب العربية في حرية اختيار من يحكمونها، وفي كيفية عيشها بدون تدخل وتوجيه من جهات ودول تعتبر نفسها وصيّة على حياة ومستقبل تلك الشعوب، فقد انحسرت دائرة العنف عندما شعر الشباب العرب بأنهم يستطيعون تقرير مستقبلهم بالانتخابات الحرة، ولكن بعد أن دعم الغرب الانقلابات على تلك الخيارات عبر أدواته في المنطقة، وتحالف مع القوى التي اختطفت مصير الشعوب، وتواطأ مع جرائمها ضدهم، أصبح خيار العنف هو البضاعة الرائجة عند قطاعات من الشباب العربي، فقد أوصل الغرب وأدواته وكل أصحاب المشاريع الصغيرة الشباب العربي إلى قناعة بأنّ التغيير متعذر بالطرق السلمية وأنّ سبيل التغيير يمر عبر العنف فقط، وبهذا حصدت وستحصد تلك القوى ما زرعته.
تسعى الكثير من الجهات والدول إلى الاستغلال والاستثمار في حالة الغضب وانعدام الخيارات عبر تقديم نفسها كمحارب في المعركة الأبدية ضد "الإرهاب" في ظاهرة انتهازية رخيصة، فغالبية هؤلاء الشباب ضحايا لظلم تلك الأنظمة والجهات، وتسعى بعض تلك الجهات لاستغلال غضبهم عبر تنظيمات وهمية تقوم بأفعال في توقيتات وأماكن معينة لخدمة استراتيجياتها الخبيثة في التوسع والهيمنة، ولكن هذا لا ينسحب على كل الحالات، ولا ينفي صفة الضحية عن هؤلاء الشباب الغاضبين.
السخرية أداة قتل أو أداة تحقير وتمهيد للقتل، لأنها تنزع الإنسانية عن المستهدفين وتجعل منهم كائنات غرائزية وجبت إبادتها، فكلنا يذكر أنّ مصطلح "خرفان" تمت إشاعته للتمهيد للانقلاب على الخيار الشعبي في مصر ولتسويغ ذبح من اختارهم الشعب، و لذلك تعتبر السخرية والإساءة جزءاً من معركة دموية خاضتها وتخوضها فرنسا ضد ضحاياها، فالفرنسيون يرفضون الاعتذار للجزائريين عن قتلهم وتهجيرهم ولسلبهم حقوقهم وثروات بلادهم، ولدعمها للانقلاب على الانتخابات الديمقراطية في الجزائر، ويرفضون تعويضهم عن تلك الجرائم، بل ذهبت فرنسا لقتال المسلمين في مالي، وجردت المسلمين من سلاحهم و تركتهم عرضة للمجازر المروّعة في أفريقيا الوسطى، ولذلك وإن كان سلوك القتل الفردي من بعض المسلمين الغاضبين مرفوضاً، إلا أنّ السلوك الرسمي الساخر المؤيَّد بالقتل الجماعي ورفض الاعتذار عن ذلك يعتبر أخطر بكثير وأوجب للإدانة، ولذلك من المهم عدم التعاطي مع الموضوع من باب عقدة النقص تجاه "الخواجا" الأوروبي، لأنّ هذا سيقنن ويشرعن شتم الإسلام والمسلمين ومقدساتهم، ويجعلها من المسلمات الرسمية والشعبية والفردية، وسيجعل المسلمين "ممسحة" للجميع، وإن كان الموضوع سيخضع للنقاش فمن المهم أن يطرح كل شيء بصراحة للنقاش وللمقايضة.
يقود اليمين العنصري الفرنسي والأوروبي، حملةً قديمة متجددة تدعو إلى طرد المسلمين من فرنسا وبقية الدول الأوروبية، وفي هذا الطرح إفراط في السُّخف والقفز عن الحقائق التاريخية والديموغرافية، فغالبية المسلمين في أوروبا من أبنائها ومن بناة اقتصادها، ولولا المدد البشري الإسلامي للاقتصاديات وللحضارة وللمجتمعات الأوروبية لانتهوا واندثروا، فهم لا يصنعون معروفاً مع المسلمين والعرب بل يقدمونه لأنفسهم ولاقتصادهم، وعلاوةً على ذلك فإن المسلمين دفعوا حياة عشرات الآلاف من شبابهم لتحرير فرنسا وأوروبا من النّازية، بينما كان اليمين النازي المتطرف أداة النّازية في حكم فرنسا عبر حكومة "فيشي" فالفضل في الحريات التي يتنعّم بها الفرنسيون والأوروبيين يعود إلى الدماء والأرواح التي قدمها الجنود المسلمون، وكان اليمين الفرنسي في الجانب الآخر من المعركة،  ولذلك فمن السخافة والظلم التاريخيين أن يحاول العنصريون النازيون تصوير أنفسهم و كأنّهم دعاة الحريات و القيم التي حارب المسلمون من أجل ترسيخها، وسيكون من الجريمة والسخرية أن يتم الإجهاز على قيم الحرية من خلال ادعاء الدفاع عنها.
 
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017