الرئيسية / الأخبار / فلسطين
وفاة العالم الجليل محمد سعيد ملحس من نابلس
تاريخ النشر: الجمعة 26/08/2016 11:06
وفاة العالم الجليل محمد سعيد ملحس من نابلس
وفاة العالم الجليل محمد سعيد ملحس من نابلس

 نابلس:اصداء- اعلن قبل ظهر الجمعة عن وفاة الشيخ محمد سعيد ملحس من اشهر من كتب في علم التجويد في فلسطين. ولمعرفة الكثير عن الشيخ الحليل  نقرأ ما كتبه سري سمور

قبل نكبة 1948 كانت أسرته تنتقل ما بين مدينة حيفا الساحلية ومدينة نابلس بحكم عملها في التجارة، وفي حيفا (تحديدا في مدرسة السباعي) درس المرحلة الابتدائية وبدأت تظهر عليه علامات النبوغ والذكاء، وما زال يحتفظ بمصحف حصل عليه كهدية لتفوقه من تلك المدرسة.

لكن النكبة وما ألحقته من دمار وتشريد لعموم الشعب الفلسطيني أصابت أسرة الشيخ محمد سعيد ملحس (أبو أسامة) فاستشهد أحد إخوته وخسرت الأسرة كثيرا من أموالها وممتلكاتها وعادت للاستقرار في مدينة نابلس، فلم يكمل تعليمه المدرسي، ومع ذلك ظل جميل الخط، متين اللغة حتى اليوم.

في نابلس عمل الشيخ ملحس بأجر ضئيل في بقالة، وعرف عنه الأمانة والتدين والحياء، وتعلم العصامية والاعتماد على الذات منذ نعومة أظفاره، وكانت البقالة ملاصقة للمسجد الصلاحي الكبير، فكان الشيخ لا يفوت فرضا في المسجد، والتزم بحضور دروس التجويد في ذلك المسجد.

ولما عرف عنه من التزام وحياء وانضباط وجدية نادرة في شباب في مثل سنه آنذاك، فقد قرَّبه أحد شيوخ نابلس الكبار (المعاني) إليه وخطب له شقيقة زوجته، وقد رضيت الفتاة وأهلها باقتراح الشيخ لما رأوا أن العريس العتيد يجمع ما بين حسن الخلق وجمال الخلقة.

شيخ نفسه

بيد أن التحول الكبير في علاقة الشيخ محمد بعلم التجويد كان إثر حدث غير متوقع؛ فالشيخ في حلقة الدرس في المسجد الصلاحي كان يدوّن كل صغيرة وكبيرة ويسأل كثيرا، وهو ما لم يعهد في ذلك الزمان وتلك الدروس، خاصة أنه التلميذ الأصغر، فبدأ شيخه يتضايق منه؛ لأنه يراه لا يلتزم بأصول الأخذ المألوفة.

وحدث أن عارض الشيخ ملحس شيخه ومعلمه في المسجد في مسألة حكم تجويد آية بناء على قاعدة درّسها الشيخ للتلاميذ ومنهم محمد ملحس، فبين ملحس لشيخه أن الحكم لا ينطبق مع القاعدة، وهنا رفض شيخه التصحيح من التلميذ باستهزاء مع غضب شديد، ودون تثبت، فكان أن خرج الشيخ ملحس من مسجده ومن حيه وذهب للصلاة في مسجد آخر ومشاعر الحزن الشديد تكتنفه جرّاء ذلك الموقف.

كان من عادة الشيخ المعروفة أنه لا يترك أي قصاصة ورق مكتوبة بالعربية مرمية على الأرض إلا ورفعها حرصا وورعا منه مخافة أن تحوي لفظ الجلالة أو شيئا من القرآن؛ وفي ذلك اليوم، ورغم حزنه، إلا أنه لم يتخل عن عادته، فرأى قصاصة من كتاب وإذ بها نص يثبت أن رأيه هو الصواب في الخلاف بينه وبين شيخه.

كتب "ملحس" رسالة إلى شيخ المقارئ المصرية في ذلك الوقت (محمود الحصري) عن تلك المسألة ومسائل أخرى، فرد الحصري بتأييد موقفه وشجعه على الاستمرار في تعلم التجويد، فانكب التلميذ الذكي على هذا العلم وصار شيخ نفسه وتمكَّن من هذا العلم أيّما تمكن، فألزمه المعنيون أن يجلس معلما للتجويد في ذات المسجد الذي خرج منه حزينا شبه مطرود.

18 طبعة

رواية حفص بن سليمان هي ما اختص وتبحر وأبدع فيه الشيخ محمد سعيد ملحس وقد دوّن ملاحظاته في علم التجويد وفق هذه القراءة، فخطر له أن يطبع ما جمع في كتاب، فأرسل مخطوطه إلى الشيخ الحصري، فما كان من الأخير إلا أن قرظه تقريظا جميلا وأذن بطباعته للمرة الأولى سنة 1950م وتدريسه لما حواه من شرح مبسط لكل من أراد تعلم التجويد.

وجاءت الطبعة الثانية في دولة قطر سنة 1958م بعدما شاع ذكر الكتاب في الآفاق فطبع وشرع بتدريسه في مدارس دولة قطر، بل وجاء للشيخ محمد عرض مغر للعمل في قطر لتعليم التجويد، من خلال القيادي المعروف حاليا (رفيق النتشة-أبو شاكر) والذي كان وقتها مديرا لمكتب وزير المعارف القطري (الشيخ قاسم بن حمد)؛ لكنه اعتذر عن العرض لأسباب مختلفة، أهمها برّه بوالدته التي لم يبق بقربها من أولادها إلا هو.

توالت طبعات الكتاب الذي صار معتمدا لدى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ولدى الأفراد الراغبين بتعلم التجويد، وإضافة إلى ما طبع في مصر وقطر فقد طبع في السودان سنة 1969م  حيث درسه طلبة كلية الشريعة في جامعة أم درمان، وحتى الآن طبع منه 18 طبعة، لا تخلو كل طبعة جديدة من زيادة وتنقيح لمقتضى التعليم الميسر للتجويد.

حمل الكتاب عنوان "أحكام تجويد القرآن على رواية حفص بن سليمان"، ومع أنه اعتمد في كثير من الجامعات والمعاهد والمدارس ودور تحفيظ وتعليم القرآن الكريم رسميًا في فلسطين وخارجها، إلا أن الشيخ رفض المقابل المادي واكتفى بأن تتحمل كل دولة أو جامعة نفقات طباعته، وقد وافقت الأوقاف على منح شهادات لمن يجتاز اختبارات التجويد بناء على فكرة الشيخ ملحس الذي اعتمد رئيسا للجنة التجويد في أوقاف نابلس.

علم ينتشر

درّس الشيخ علم التجويد في المسجد الحنبلي بمدينة نابلس حيث عمل إماما، وكذلك ليلا في المعهد الديني الإسلامي في ذات المدينة بضع سنين، ثم توجه إلى باقة الغربية إحدى المدن العربية الفلسطينية داخل ما يعرف بـ(الخط الأخضر)؛ حيث خصص يوما في الأسبوع لتدريس أحكام التجويد في مكان أصبح لاحقا كلية علوم شرعية إسلامية قائمة بذاتها.

درّس الشيخ هناك ثلاثة أجيال على مدى عقدين (الجد-الابن-الحفيد)؛ لكن سياسة الإغلاقات والفصل بين المناطق التي انتهجتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي أجبرته على التوقف عن التدريس هناك.

وقد درّس ملحس- أيضا- في كلية الشريعة بمدينة قلقيلية، وتتلمذ على يديه من صاروا معلمين لأحكام التجويد في المساجد أو دور التحفيظ أو المدارس والمعاهد الرسمية أو الأهلية.

إذاعة القرآن

استمر الشيخ في سعيه لخدمة دين الله والكتاب العزيز وفق تطور الزمن والعصر، فبعد قدوم السلطة الفلسطينية، واعتماده رسميا مديرا عاما لقراء شمال فلسطين من وكيل وزارة الأوقاف الفلسطينية السابق، الشيخ يوسف جمعة سلامة، وصار بالإمكان تأسيس إذاعات بث محلية، أنشأ الشيخ بمجهود ذاتي، وبرفقة الشيخ محمد بانا، إذاعة القرآن الكريم في مدينة نابلس سنة 1998م.

وشهدت الإذاعة تطورا ملحوظا في المساحة الجغرافية لالتقاط البث والبرامج التي تقدم للمستمعين.

فكرة الشيخ ملحس قامت على ألا تكون الإذاعة مشروعا استثماريا، بل أن يكون دخلها كافيا لتمويلها، ونجحت الفكرة، حيث تغطي الإذاعة حاليا كل فلسطين ومعظم الأردن، وأجزاء من سورية ولبنان وسيناء، بل هناك من سمع بثها على شواطئ تركيا، كما أن لها موقعا على الإنترنت يقدم خدمة البث المباشر لمن شاء في أي بقعة من العالم، إضافة إلى صفحتها على فيسبوك.

وإضافة إلى التلاوات القرآنية لمختلف القرّاء يوميا ودروس التفسير، تقدم الإذاعة برامج أخرى، منها ما هو مباشر للإجابة على أسئلة المستمعين الذي يتصلون بمتخصص في الفتوى، إضافة إلى برامج تربوية واجتماعية.

وعن الإذاعة ورسالتها تحدث الأستاذ أسامة ملحس، نجل الشيخ محمد الأكبر ورئيس قسم البرامج قائلا: "احتفلنا قبل مدة بالذكرى الـ19 لتأسيس وإنشاء الإذاعة، وهي تضم 13 عاملا وموظفا وفنيا، ونسأل الله- تعالى- أن يكون كل جهد في الإذاعة خالصا لله وأن تستمر على ما أنشئت عليه".

وأضاف: "رسالة الإذاعة دعوية لخدمة دين الله والمسلمين بما لا يكون حزبيا أو فصائليا".

وعن سبب نجاح الإذاعة الملحوظ والمتواصل يقول أسامة، "إنه توفيق من الله تعالى، ثم لأن الإذاعة تتجنب وتبتعد عن الخلافات، وذلك حتى في مسائل الإفتاء في القضايا الفقهية المختلف عليها".

حياة القرآن

أنجب الشيخ ثلاثة من الأولاد، وابنتين اثنتين، وأحد أولاده (محمد نور) استلم لجان التحفيظ في نابلس.

ورغم تقدم العمر بالشيخ أبو أسامة، إلا أنه ما زال يؤدي الصلاة واقفا دون جلوس، وما زال يتلو القرآن الكريم ملتزما بأحكام التجويد، مع أن الضعف والوهن أصاب فيما أصاب حنجرته ونبرات صوته، مثلما أصاب سائر جسده.

كل من تعلم التجويد من الشيخ مباشرة، أو من خلال كتابه أو ممن تتلمذ على يديه أو من يتابع إذاعة القرآن الكريم، يدعو الله أن يحفظه وأن يثبته ويحسن خاتمته.
 
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017