mildin og amning mildin 30 mildin virker ikke"> نائل البرغوثي يشق طريق الآلام بقلب قديس - أصداء mildin og amning mildin 30 mildin virker ikke">
الرئيسية / الأخبار / فلسطين
نائل البرغوثي يشق طريق الآلام بقلب قديس
تاريخ النشر: الأربعاء 22/02/2017 17:20
نائل البرغوثي يشق طريق الآلام  بقلب قديس
نائل البرغوثي يشق طريق الآلام بقلب قديس

 الاحتلال يستعيد فاشية القضاء بإعادة حكمه بالمؤبد:

نائل البرغوثي يشق طريق الآلام  بقلب قديس

بسام الكعبي

تَجوّل الأسير نائل البرغوثي مطلع نيسان 1997 مع رفاقه في ساحة معتقل نفحة الصحراوي، تحت شمس صباحية فاترة، وطار بصره فجأة  إلى عصفور بحجم قلبه، يتمدد دون نبض في رمل ساحة الفورة: خَطَفه (أبو النور) على الفور،  نفض عنه حبيبات النقب الصفراء، مَسَح مراراً على قلبه الساكن، ووضَعَه تحت جرزة صوف لعله يخطف  قليلاً من دفئ قلب طاهر. إستعاد العصفور وعيه بمعجزة السماء بعد دقائق من "المعالجة" بوسائل متاحة لأسير يتحدى قسوة السجّان في صحراء النقب؛ أطعَمه، وبلّل حلقه بقطرات ماء؛  لمواجهة جفاف في صحراء قاحلة. إسترد الطائر روحه وحرك جناحيه استعداداً للطيران. تأمل الرمادي بدقة ملامح المسعف الوسيم، "طالباً" إستكمال مهمته ومساعدته على التحليق. قفز إلى الفضاء مترنحاً، وقد يكون فشل في وظيفته التي يحترفها، وربما سَقط مغشياً عليه فوق الرمل الأصفر الجاف خارج أسوار المعتقل!

تمنى نائل أن يحلق عصفور الشمس حراً في السماء، يحمل أنفاسه التي نفخ بها في صدره ليخفق بجناحيه عالياً، ويفترس كطائر رعد لهيب الشمس، يكفيه قيّد سلاسله منذ عشرين عاماً  (في ذلك الوقت). حَزنَ نائل لاحتمالية الموت التي تربصتْ بالرمادي الجميل، وكتب يخاطب الجناح الغائب عن البصر:" لَمْ تتركنا وحدنا؟ لقد تَحمَلتَ بشجاعة تبعات إصرارك على مرافقتنا من منفى إلى آخر، من شمال أخضر يانع إلى جنوب أصفر قاحل. رفَضتَ كل محاولات الغزاة بدفننا في الصحراء، ومنحتنا صلاتك الخاصة عند كل فجر، لعل تغريدتك الفلسطينية المتفجرة بالجمال والإيمان، تزهر فينا الأمل بالحرية والانتصار على السجّان. أنت تشدو في صحراء واسعة مخيفة دون خوف. لروحك الشجاعة التي سلمتنا القوة والتماسك والصبر..السلام والطمأنينة".

كيفَ عثر الأسير نائل البرغوثي على لغته الجميله، وتماسكه الأسطوري، وقبض على الجمر منذ سنوات بعيدة.. مِنْ أين إستمد  صلابة مواصفاته ليشق طريق الآلام بصبر وثبات؟ وكيف وظَفَ قدرته على صياغة المفارقات بطريقة ساخرة وبارعة؛ ساعدته على مزيد من التماسك في سنوات الاعتقال القاسية والطويلة..والمتجددة؟

شقاوة طفل

في الثالث والعشرين من تشرين أول  1957 رزق صالح البرغوثي وزوجته فرحة بالمولود الثاني  نائل في قرية كوبر شمال رام الله، لعائلة عريقة  تعود جذورها إلى قرية دير غسانة المجاورة.

تعلم نائل في طفولته المبكرة كيفية إشعال سيجارة الهيشة من جده عبد الله، الذي عاش مائة عام، وتنقل في عدة بلدان أثناء خدمته العسكرية مع الجيش التركي، ولاحقاً، ساعده ذلك على توفير ولعة للسجائر في زنازين الاحتلال.

 إشتهر جده رباح، والد أمه، كطبيب شعبي يعالج المرضى مجاناً بالأعشاب، وتجول خلال الاحتلال البريطاني في غالبية المدن والقرى الفلسطينية، وإكتسب شهرة واسعة في العلاج المجاني للمحتاجين. قضى رباح عدة أشهر في سجون الاحتلال البريطاني لمواقفه المناهضة للسيطرة الاستعمارية، واكتسب طبيب الأعشاب من والده علي موهبة الخطابة وقرظ الشعر، ووَرثَ الموهبة لكريمته فرحة التي تميّزت بزجلها الشعبي الوطني.

 سافر نائل سنة 1961 إلى عمان برفقة والدته لأول مرة في حياته، وذلك للاطمئنان على صحة خاله علي، وقبل مضي عام على زيارته الأولى، عاد مرة ثانية وأخيرة إلى جبل النصر في عمان لزيارة خاله علي عقب الافراج عنه من سجون الأردن. في اليوم الأخير للزيارة، شارك والدته وخاله في جولة للتسوق بمركز العاصمة، وعلى مدخل أحد المحلات لفت انتباهه "حارساً" بحجمه وطوله يتحرك بطريقة غريبة، ويبتسم بأسلوب مفتعل. تسمّر الصغير على باب المحل فيما عَبَرت والدته برفقة شقيقها إلى الداخل. حاول الصغير التواصل مع "الحارس"، لكنه تجاهله ولم يرد عليه، وواصل إبتسامته الساخرة. صفعه الصغير على وجهه، فتحطمتْ لعبة البلاستيك التي تضبط حركة "الحارس" المنتظمة نتيجة تشغيل بطارية. خرج صاحب المحل ليتفحص الأضرار، وبعد جدل أبدى خاله استعداده لتعويض خسارة البائع بدفع خمسة دنانير أردنية، لكن صاحب المحل تنازل عن حقه رافضاً تعويض خسارته.

عقب زيارتين قصيرتين يتيمتين إلى شرقي الأردن قبل بلوغه السادسة، بدأ مشواره المدرسي عندما التحق سنة 1963 في الصف الأول ابتدائي بمدرسة كوبر. استقطب تمرده "عداء" المعلمين منذ الدروس الأولى؛ صفعه أستاذه علي السفاريني بقسوة على وجهه، لأنه رفض الاستجابة لتعليماته وكتابة الأحرف العربية بقلم رصاص، وأصر على رسمها بستة ألوان وفرتها علبة تلاوين إحتفظ بها في حقيبة القماش. رد الصغير صفعة المعلم الجبّار بالانتقام من نجله ضرار، وضربه علقة ساخنة. أقام الأستاذ السفاريني القادم من أرياف طولكرم، مع أسرته في غرفة مقابلة لسقيفة والد نائل.

الأستاذ عبد الرازق البرغوثي، حفر التاريخ بطريقة ذكية في ذاكرة طالب وطأ الصف الرابع: بَرَع الأستاذ بالرسم، وجسّد بالطباشير لوحة للقائد خالد بن الوليد فوق فرسه وبيده سيف المقاتل، وأدهشتْ اللوحة الفتى الصغير، وبدتْ كأنها  تبعث الروح في المقاتل وفرسه. استخدم الأستاذ اللوحة كوسيلة إيضاح للتاريخ العربي، وزرعها في ذهن الفتى؛ وقد حفظ التاريخ العربي عن ظهر قلب، وبات الرسم  الفني المبدع يسابق المعلومات إلى ذهنه، كلما شكل التاريخ محوراً للنقاش مع رفاقه.

لم يَسلَم كتاب التاريخ، فقد اشتبك نائل مع زميله رياض زيبار على الكتاب. أصر زميله على الاحتفاظ به، رغم العلامة الفارقة التي وضعها نائل على كتابه. اشتبكا وتدخل الأستاذ أحمد رضوان لفض الاشتباك، وعرض عليهما تمزيق الكتاب إلى نصفين ومنح كل منهما نصفاً. وافق زميله رياض فوراً على الاقتراح، فيما رفضه نائل بقوة ودافع عن حقه الكامل بملكية الكِتاب، لصعوبة  تمزيق التاريخ، والتنازل عنه بصفقة والقبول بشطر منه. صَمت الأستاذ برهة ثم قال دون تردد: الكِتاب لك يا نائل، والتاريخ لمن يرفض اقتسامه والمساومة عليه.

 دشن عدوان 5 حزيران 1967 مرحلة جديدة من التاريخ؛ على وقع هدير الدبابات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وقطاع غزة، وسيناء، والمرتفعات السورية، وشَاهد نائل طائرات  تلاحق بعضها في السماء، وسَمع صوت القذائف قبل أن يسمع الأخبار عن هزيمة الأنظمة العربية وإنكسار جيوشها.

شاهد مائة جندي من قوات الصاعقة المصرية في أطراف كوبر، بعد فشلهم في السيطرة على نقطة عسكرية قرب اللطرون خسرها الجيش الأردني. انسحب قائد الفصيل بعد استشهاد عدد كبير من مقاتليه، ونقل معه عدداً من الجرحى. استقرتْ قوات الصاعقة في التلال الغربية لقرية كوبر، وأبدى نائل  حماساً لمساعدة الجيش المصري بجمع  الخبز والبيض وما تيّسر من أطعمة، حتى تمكنت قوات الصاعقة من وصول الأردن بلباسها العسكري وكامل عتادها، ونالتْ أوسمة على شجاعتها، وأرسلتْ عبر الأثير شكرها لأهالي  كوبر لدورهم في مساعدة الصاعقة المصرية على صمودهم.

انتقل نائل إلى مدرسة الأمير حسن في بلدة بيرزيت بعد إنهاء المرحلة الابتدائية، وطالب أستاذه كمال حنون بأن تحمل المدرسة إسم الثورة. رمَقه الأستاذ بنظرة يختلط فيها الاعجاب بالغضب من طالب متمرد: بدك تغيّر إسم المدرسة يا نائل بسيف عنتر! المدرسة اقيمت قبل ولادتك بسنوات طويلة وحملتْ إسمها؟ لم يقتنع نائل بالأجوبة القاسية التي كان يتلقاها من معلميه رداً على اقتراحه المتمرد.

عنفوان فتى

أنهى المرحلة الاعداية سنة 1972 وانتقل إلى المرحلة الثانوية في نفس المدرسة، لكنه دخل طوراً جديداً من التمرد، ونشط كطالب بارز في التظاهرات، ونسج علاقات مع طلبة ناشطين في جامعة بيرزيت.

 في العاشر من نيسان  1973 إغتالت مجموعة "كوماندوز" إسرائيلية في بيروت ثلاثة من كبار قادة حركة فتح: كمال ناصر، كمال عدوان وأبو يوسف النجار. شهدت بيرزيت، بلدة الشاعر كمال ناصر، تظاهرات طلابية استنكارا لعملية التصفية الجسدية، وتقدم صفوفها نائل، كما شارك بتظاهرات يوم الأرض التي إندلعت في الثلاثين من آذار 1976.

اكتسب نائل لقبه  (أبو اللهب) من نيران عجلات السيارات التي كان يشعلها في شوارع بيرزيت خلال التظاهرات، ومن قبعة جلد سوداء كان يرتديها مقولبة على رأسه أثناء المسيرات. بات نائل عرضة لاستدعاء واستجواب المخابرات الإسرائيلية في مقر الحاكم العسكري (المقاطعة) في رام الله.

واصل أواخر العام 1976 اهتمامه بنقاش  الفلسفة  الماركسية والمادية التاريخية، وناصر الطلبة  من أجل تعريب المناهج في جامعة بيرزيت، وساند اندلاع إضراب الأسرى في سجن عسقلان بتظاهرة  طلابية ساهمت باحتجازه في خريف 1977 بمعتقل رام الله، وقد إلتقى  بأول أسير في غرف السجن: الحاج شريف من قرية ترمسعيا شمال رام الله. أصيب نائل بالدهشة عندما عَلم أن الحاج شريف محكوم بالسجن الفعلي عشر سنوات منذ عام 1969 وقضى منها ثماني سنوات، وتساءل في سره: كيف قضى الحاج شريف كل هذا العمر في السجن؟ مِنْ أينَ يعلم نائل البرغوثي عدد السنوات الطويلة التي سيقضيها في سجون الاحتلال؟!

أحلام قديس

أطلق الاحتلال سراح نائل البرغوثي أواخر كانون ثاني 1978 لعدم انتزاع لائحة إتهام، ثم إلتحق بالكتيبة الطلابية أحد أبرز أذرع حركة (فتح). داهم الاحتلال منتصف ليلة الرابع من نيسان 1978 منزل نائل  بعد إنكشاف أمر مجموعته. تعرضْ أفراد الخلية طوال أربعة أشهر للتحقيق، قبل الاحتجاز ستة أشهر في سجن رام الله، وتلقي أحكاماً قاسية بالسجن المؤبد.

خاض نائل مع رفاق الأسّر اضرابه الأول عن الطعام في سجن رام الله لمدة ثلاثة أيام، احتجاجاً على نوعية الطعام الذي تقدمه الادارة، وقرر الأسرى الامتناع عن تناول الوجبة التي يطبخها المعتقلون المدنيون، وطالبوا باشراف الأسرى على وجباتهم. رفضتْ الإدارة طلبهم، فامتنعوا طوال خمسة أشهر عن الوجبات المطبوخة، وظلوا خلال هذه الفترة يأكلون ما تيّسر من خبز، لبن، فواكه، بيض، أنواع محدودة من المربى والقليل من الأجبان. صَمَد الأسرى طويلا حتى استجابتْ الإدارة لطلبهم وسلمتهم المطبخ، لكنها ظلتْ تقاوم  وجود صندوق وطني للأسرى، وتلاحق الاحتفالات الوطنية ومناسبات الفصائل برش الغاز.

نقل أواخر 1978 بعد صدور حكم المؤبد  إلى سجن بئر السبع في النقب المحتل، وتعرض لضرب مبرح أثناء عملية النقل. قَطعَ نائل لأول مرة في حياته الطريق الطويل إلى بئر السبع، وصل السجن  ينزف ألماً شديداً من أسنانه التي حفرها طبيب عيادة سجن رام الله وتركها مكشوفة دون علاج، وإنتظر ثمانية أشهر حتى وفرتْ الإدارة علاجاً للعصب المكشوف.

معجزة حلم

إلتقى الأسير نائل البرغوثي في ساحة "فورة" زنازين عزل معتقل بئر السبع بالأسير الكفيف محمود أبو دنهش، من بلدة حلحول. إهتم به ووفر احتياجاته الشخصية بسبب فقدان بصره خلال اشتباك مسلح. ليلة 14 آذار 1979 داهم نائل حلماً في منامه: رافق الأسير أبو دنهش في صعود منطقة جبلية مرتفعة تقع على أطراف أحراش أم صفا غرب رام الله، وقبل بلوغ شارع رئيسي مجاور للأحراش، مَزقَ أبو دنهش مخدته التي كان يحملها معه، وأطلق ريشها في الهواء ولحق بالريش نحو قمة الجبل العالية، فيما علق نائل مع مخدته بين صخور الوادي.

في الصباح روى بعفوية حلمه لرفيقه الأسير الكفيف؛  وقد مضى على معاناته عشر سنوات في الزنازين. صبيحة اليوم التالي 15 آذار، تحقق حلم نائل وحلق أبو دنهش خلف ريش مخدته برفقة 76 أسيراً وأسيرة. طار المحررون من مطار اللد على متن الخطوط الجوية النمساوية، قبل هبوط طائرتهم بمدرجات العاصمة فيينا في طريقهم إلى الجزائر، وذلك باطار صفقة للتبادل أطلقت عليها الجبهة الشعبية (القيادة العامة) عملية النورس.

واجه أسرى بئر السبع في صيف 1981 حراس السجن؛ بسبب رفض الأسير رمضان البطة الاستجابة لطلب الإدارة باخراج أسير من غرفته. أخرج الحراس جميع أسرى الغرفة (3) وسحبوا نائل إلى جهة جانبية وأشبعوه ضرباً. أصيب كل أسرى الغرفة برضوض وكسور: تحطيم الساعد الهشة والنحيفة للأسير رمضان البطة، وكانت قد تعرضت للاصابة باطلاق نار أثناء اشتباك مسلح، ونقل إلى مستشفى سوروكا للعلاج. أصيب عيد الأقرع بكسرين في القفص الصدري، ونقل أيضاً إلى المستشفى للعلاج. وتعرض كمال الرفاتي، ربحي فرحان أبو ربيع، ونائل لرضوض ونقلوا إلى عيادة السجن.

قضى نائل خمس سنوات يتنقل بين سجني بئر السبع وعسقلان، قبل نقله إلى سجن جنيد غربي نابلس، وقد شهد نقاشاً فكرياً وسياسيا حول حصار بيروت صيف 1982، وأسباب خروج المقاتلين، وشهد في سجن عسقلان انقسام حركة فتح في 9 أيار 1983. افتتح الاحتلال سجن جنيد  سنة 1984، وبدأتْ عملية نقل الأسرى إلى أقسامه المختلفة. وصل نائل السجن  مع الدفعة الثالثة   قادماً من معتقل عسقلان يوم 29 تموز 1984، بعد ثلاثة أسابيع على افتتاح المعتقل، وكانت بقايا رائحة الغاز تنتشر في أقسام السجن الجديد عقب إحتجاج الأسرى على اكتظاظ الغرف.

بعد مرور شهرين على افتتاح السجن، اتخذ 800 أسير قرارهم بالاضراب عن الطعام في شهر أيلول؛ احتجاجا على الاكتظاظ وتحسين ظروف الاعتقال. استجابتْ الإدارة للمطالب عقب اضراب تواصل أسبوعين:  تخفيف الازدحام، الموافقة على شراء راديو صغير لكل أسير.

أثير الفرح

إلتقط منتصف إحدى ليالي ربيع 1985 نشرة أخبار إذاعية؛ كشفت تفاصيل اتفاق بين الجبهة الشعبية (القيادة العامة) وإسرائيل على صفقة تبادل للأسرى بواسطة دولية. طيّر نائل الخبر للأسرى وأضاء ليلهم بالفرح.

لم يمض شهر على خبر الإذاعة، حتى وصلتْ قوائم المحررين: يوم السبت في الرابع من أيار 1985، تلا ممثل المعتقل مسلم الدودة أسماء المفرج عنهم للانتقال إلى قسم منفصل، لكن إسم نائل غاب عن القائمة، وظل متماسكاً برفقة الأسير السوري محمد المغربي المحكوم بالمؤبد منذ 1970.

في العشرين من أيار 1985 كان الأسرى المحررون في طريقهم بالحافلات إلى مكاتب الصليب الأحمر في الضفة وغزة، فيما نقلتْ ثلاث طائرات مجموعة أخرى إلى مطار جنيف السويسري قبل رحلتهم إلى مطار طرابلس في ليبيا. عاد شقيقه عمر إلى كوبر محرراً بعد قضاء سبع سنوات برفقة الأسرى الذين اختاروا البقاء في قرى ومدن ومخيمات الضفة وغزة. تبقى في سجون الاحتلال 18 أسيرا محكومين بالمؤبد رفض الاحتلال اطلاق سراحهم، موزعين بين سجني جنيد ونفحة أبرزهم: سليم الزريعي، مسعود الراعي، ماهر يونس، كريم يونس، سامي يونس، فخري البرغوثي، نائل البرغوثي، سمير قنطار، أحمد أبو السكر، أكرم منصور، عثمان مصلح، عمر القاسم، سعيد العتبة، أبو علي يطا..

 زنزانة تخطف 8 سنوات!

استعدتْ إدارة معتقل جنيد، عقب تنفيذ صفقة تبادل الأسرى، لاعادة إحكام السيطرة على المعتقل: عزلتْ الأسرى ذوي الأحكام المرتفعة في قسم (3) الشرقي الذي يحوي 13 غرفة، ووزعتْ آخرين على قسمي (7) و (6) في الطوابق العليا،  فيما حجزتْ ذوي الأحكام الخفيفة في أقسام (4) (5) (10). اتخذتْ الإدارة اجراءات تحظر اختلاط الأسرى  فيما بينهم، تمرد الأسرى على اجراءات السّجان، ودخلوا في مواجهات مع الادارة، وأعلنوا اضرابات متكررة ومتقطعة  طوال ثلاثة أعوام، حتى بلغوا الاضراب المفتوح يوم 25 آذار 1987 وتواصل عشرين يوماً، وعلق باتفاق مع الإدارة صبيحة 9 نيسان.

أقام نائل أثناء الاضراب في غرفة (6)  قسم  (3) الأرضي، ثم صعد عقب انتهاء الإضراب إلى قسم (7) في الطابق الثالث، وإستقر في غرفة (12)  مع سبعة أسرى من جبهة التحرير العربية صدرت بحقهم أحكام قاسية: محمود حننه وهشام خطاطبة من بيت فوريك (نابلس)، حامد مزاحم من عبوين (رام الله)، محمود كشطم من الجديدة (جنين)، مبارك رومانيم من العوجا (أريحا) وعبد المجيد سليمية من اذنا (الخليل).

تحوي الغرفة ثماني أسّرة كل اثنين فوق بعض، وطوال ثماني سنوات حرص نائل على حجز البرش الأرضي، فيما شاركه في البرش الأعلى مبارك رومانيم مدة ثلاث سنوات، ومحمود كشطم مدة عامين، وتنقل نائل على خمسة أبراش طوال ثماني سنوات بمشاركة أحمد أبو السكر من ترمسعيا (رام الله)، حسني جروان من عسكر (نابلس)، ناصر شريف من سلواد (رام الله)، جمال الدردوك من نابلس، فهد حننه من بيت فوريك (نابلس).

تأقلم نائل على وجوده في زنزانة تطل من الطابق الثالث على شرق نابلس، ورسم طقوساً خاصة به: يراقب يوميا شروق الشمس على منازل المدينة وتلالها المرتفعة، ثم يتأمل ليلاً  القمر والنجوم،  ويرصد  حركة كل نجمة في السماء وتوقيتها. أطلق أسماء خاصة به على النجوم وسجلها في دفتره الفلكي، وعشق واحدة سمّاها بالمهر الجامح لقوتها الهائلة وجنوحها البارز في السماء، تمنى مراراً لو طار في الفضاء محلقاً على جناحها، أدرك سر تأملها الدائم وتعلقه بجنوحها: تشابه في التمرد والتحدي.

راقب على الأرض تمدد مخيم عين بيت الماء، وشَهَد طوال ثماني سنوات غياب البيوت المتلاصقة بالتدريج  خلف العمارات العالية، وشاهد بانتظام زاوية من مستشفى الاتحاد، وعمارات إسكان المهندسين، وأجزاء من جامعة النجاح، وجامع المخفية، ومدرسة كمال جنبلاط، وطريق زواتا وحركة السيارات على الشوارع، وكان سعيداً بمشهد تمدد المدينة وتغيّر معالمها كل يوم أمام بصره، لكنه إكتشف حجم حزنه:  شهد مطلع التسعينيات بدء حفريات لبناء عمارتين بمواجهة شباك غرفته تماماً. إنتهى تحت بصره حفر الأساسات. بدأت عملية بناء الطابق الأول، الثاني، الثالث، الرابع والخامس.  تشطيب العمارتين وتجهيزهما للسكن. لاحظ الاضاءة تغزو الشقق بالتدريج. شهد حفلات أعراس وسيارات الفرح. دقق بالصغار يركضون ببراءة في ساحة العمارتين دون أن يدرك سكان العمارتين سر "المتلصص" من شباك زنزانة رقم (12) يتأمل بصمت فك متوحش للزمن

رصد التحولات

قرر مطلع 1992 الإلتزام بالصلاة، واتخذ خطوة واضحة بتغيير لقبه من (أبو اللهب) إلى (أبو النور) وتخلى طوعياً عن لقبه الذي طارده خمسة عشر عاماً. واظب على قراءة الكتب الاسلامية المتوفرة بمكتبة السجن، وابتعد بالتدريج عن الفكر القومي التقدمي اليساري الذي اعتمده؛ منذ التحاقه بالحركة الطلابية ونشاطاتها الوطنية في مدرسة الأمير حسن.

شهد أيلول 1992 إضراب الأسرى عن الطعام، وتواصل على مدار ستة عشر يوماً على وقع حملة تضامن واسعة في الأرض المحتلة، وأحصى نائل سقوط عشرين شهيداً في الضفة وغزة من أجل انتزاع حقوق الأسرى.

عقدت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في الثالث عشر من أيلول 1993، وازداد قناعة برؤيته الإسلامية، ووافق حركة حماس على موقفها برفض إعلان مبادئ  أوسلو.

أعلن طلبة جامعة النجاح  تضامنهم مع أسرى جنيد عقب إضراب شهدته السجون بعد توقيع اتفاقية أوسلو. واجه الطلاب جنود الاحتلال بالحجارة، فاستشهد  ثلاثة منهم يوم 25 حزيران 1995: شادي أنور عزايم (21 سنة) من برقة شمال نابلس، وكان يعيش مع أسرته في الكويت قبل عودته إلى الوطن للالتحاق في جامعة النجاح. وائل عبد المعطي الخراز (20 سنة) من نابلس. محمد بشير رمضان (21 سنة) من تل.

غادر يوم 29 تشرين أول  1995 غرفة (12) للمرة الأخيرة، قبيل تسليم سجن المدينة إلى أجهزة السلطة الوطنية. تأمل جدران الزنزانة الضيقة قبل لحظات انفعال وغضب، بصق على جدران غرفة خطفت وحدها ثماني سنوات من عمره.

غادر سجن جنيد لأول مرة منذ أحد عشر عاما. اخترقت "البوسطة" في طريقها إلى سجن الرملة مركز مدينة نابلس، وشاهد نائل الأعلام الفلسطينية فوق المؤسسات الوطنية، واستمع لأصوات الباعة، ودقق في حركة الناس وطوابير السيارات والمنازل والمحلات والبضاعة وملامح المارة والتجار والمتسوقين، وبدا له أنه يعرف كل واحد التقطه بعينيه من قلب المدينة المكتظة بالحركة. لم يجلس على المقعد طوال رحلة "البوسطة"، وظل واقفاً يتأمل كل شيء يسقط تحت بصره، في الطريق الممتدة نحو الغرب. قضى قبل عودته إلى جنيد عدة أيام في معبر سجن الرملة، واختار سائق "البوسطة" طريقاً جديدة للوصول إلى نابلس. حرص نائل طوال الطريق على البقاء واقفاً، لعله يلتقط ببصره كل شيء ويحتجزه كمشهد في ذاكرته يقتاتُ عليه خلف قضبان زنزانته، وتأمل أن لا يغيب مشهدا من طريقه المقيّدة بالحديد.

استقر في سجن بئر السبع  شهرين، قبل أن يتخذ قراره بالعيش في أقسام حركة حماس دون إلتزام سياسي بمواقفها، وبدافع التشابه في السلوك الاجتماعي: لا يدخن ولا يسهر خلال الليل. نقل إلى نفحة مطلع 1996، وعثر منتصف نيسان 1997 على عصفوره الرمادي الصغير، وقد ظل ينفخ في منقاره حتى استرد وأطلقه حراً إلى السماء. 

نقل إلى سجن عسقلان عام 1997 وشارك يوم 6 أيار 2000 باضراب عن الطعام تواصل خمسة وعشرين يوماً، تضامناً مع أسرى معتقل هداريم الذين بدأوا اضرابهم مطلع أيار احتجاجاً على زجهم في سجن جديد للعزل؛ وشهد خلال الاضراب تحرير جنوب لبنان يوم 25 أيار بفرار جيش الاحتلال ومرتزقة الجنرال أنطوان لحد تحت شدة ضربات جبهة المقاومة اللبنانية.

الوداع الأخير

حظي نائل يوم 10 آب 2004 بزيارة والده بعد انقطاع طويل عن الأهل دام ثلاث سنوات لرفض الاحتلال منحهم تصاريح زيارة.  لم يكن المسن متعباً بل كان بكامل حيويته وصحته، وقد توجه إلى فلذة كبده بمفردات توحي بوصيته عندما كرر بوضوح مودعاً: هذه زيارتي الأخيرة لك يا نائل، فإحرص على نفسك وإضغط على جمرك المتقد أكثر، حتى يحين موعد الفرج. دقق في ملامح والده، وتساءل في سره: لماذا يشدد على مفردة زيارته الأخيرة؟

إنتهت الزيارة سريعاً، وغادر والده عائدا إلى بيته، في حين أقدمت إدارة السجن على نقله بعد ثلاثة أيام إلى معتقل نفحة، متزامناً مع إعلان الإضراب المفتوح عن الطعام الذي طرق أبواب السجون في منتصف شهر آب.

بعد شهرين تقريباً على آخر زيارة لوالده، وتحديدا يوم 13 تشرين أول 2004 علم نائل برحيل والده أثناء وجوده في معبار سجن بئر السبع قادماً من نفحة لحضور جلسة محكمة في الرملة. تدخل ممثل المعتقل لدى إدارة سجن بئر السبع، ليلتقي نائل شقيقه عمر لمدة ساعة في معبار سجن بئر السبع قبل عودته إلى معتقل نفحة. كان الصمت بين الشقيقين الأسيرين أبلغ من الكلام، وهما يستعيدان في الذاكرة كفاح رجل تواصل على مدار سنوات عمره، ورحل بكبرياء مناضل فذّ، لم يتأخر يوماً عن تقديم واجبه الوطني والإنساني لأبناء شعبه.

أقدمت إدارة سجن نفحة  مطلع نيسان 2005 على نقل نائل بصورة مفاجئة إلى معتقل عسقلان، وبعد أسبوعين هبط الشقيقان عمر ونائل من غرفتهما إلى قاعة إنتظار في السجن وسط حالة من استنفار غير عادية للحراس. دخلتْ والدتهما أم عمر منهكة على حمالة، تماسكتْ وقالت أن والدكما رحل قبل ستة أشهر وهو راض عنكما. مرت الزيارة بطقوس حزينة ومؤلمة، وعادتْ أم عمر لاستكمال علاجها بمستشفى المقاصد الخيرية في القدس، قبل أن تغيب فجر 19 تشرين أول 2005 عقب مشوار طويل جداً على بوابات سجون الاحتلال. تنقل نائل خلال ست سنوات على غياب والدته بين سجون هشارون، ايشل، نفحة، وتحرر من رمون يوم 18 تشرين أول 2011 في صفقة وفاء الأحرار.

الارتباط بأسيرة محررة

مطلع تشرين ثاني 2011، وبعد اثني عشر يوما على تحرره، غادر نائل بلدة كوبر برفقة جاهة شعبية، واتجه صوب قرية نعلين غربي رام الله، وتقدم رسمياً لخطبة الأسيرة المحررة إيمان نافع من والدتها وأشقائها. حدد موعد زفافه بعد ثمانية عشر يوماً على الخطبة، وشكل وجهاء كوبر لجنة لمتابعة شؤون الزفاف. انطلقت في المساء فعاليات السهرة، ورقص الشبان للحرية وغنوا للوطن المحتل، وسجل نائل مشاعره وأمنياته أمام مراسلي الصحافة المحلية.

أقام وزوجته إيمان في بيت العائلة لعدة أسابيع، قبل أن يستكمل تجهيز بيته الجديد، ويعيد ترميم أخطاء البناء، لكنه لم يفقد ايمانه مطلقاً بصدق شعبه رغم مسلكيات مجموعة استثنائية لا يشغلها سوى اقتناص المال دون رادع أخلاقي، وظل قابضاً على صرخة البطل في رواية "اللاز" للروائي الجزائري الطاهر وطار: ما بظل في الوادي إلا حجارته.

غياب أبو السكر

ظهيرة الأربعاء يوم 17 تموز 2013 حَمل نائل على كتفه نعش رفيقه أحمد أبو السكر، وسار به مع آخرين مسافة طويلة من جامع البلدة حتى المقبرة تحت شمس حارقة، ورفض نائل أن يستبدله أحد أثناء التشييع قائلاً: حَمل أبو السكر قضية فلسطين 27 سنة في سجون الاحتلال، لنحمله 27 دقيقة على الأكتاف في رحلته الأخيرة. أصّر مع رفاقه حمل نعش أبو السكر بدلا من استخدام سيارة نقل الموتى. في الطريق الترابية إلى المقبرة، استعاد نائل تاريخ الرجل الصامت الممدد فوق كتفه، وقد رحل بصمت فوق أكتاف الأجيال المتعاقبة للمقاومة الفلسطينية، بعد  تاريخ حافل من الكفاح.

براعة السخرية

سجل نائل لاستكمال دراسته في جامعة القدس المفتوحة، وإلتحق فعلياً مطلع أيلول 2013 بالفصل الدراسي الأول، لكنه قبل ذلك جَلب كميات من التراب الزراعي الأحمر وفردها في المدخل الواسع لبيته، وجهّز الأرض للمطر الذي يعانق السماء مودعاً قبل أن يحتضن الأرض ويمنحها بريق روحه لتثمر وتزهر، وقبل أن يكمل دراسته أعاد الاحتلال إعتقاله مرة أخرى في حزيران 2014 وأصدر بحقه حكماً في السجن الفعلي لمدة عامين ونصف.

قضى نائل 34 سنة وعاد مرة أخرى للسجن، ودفع ثمناً باهظاً لمواقفه، وكان قد قال أنه ليس فخورا بقضاء ثلثي عمره في سجون الاحتلال، لأن الواجب الوطني يقتضي تحريره وكل أسرى وأسيرات الحرية. إعترف أن الفضل في صموده يعود للخالق عز وجّل الذي ثبّت من السماء إيمانه وقدرته على تحمل معاناة الأرض، ثم تماسكه الشخصي وصموده الأسطوري حتى غادر يمتلك شخصية متماسكة وقدرة هائلة على  انتزاع المواقف الكوميدية الساخرة في أحلك الظروف القاسية والأوقات العصيبة، ويمتلك براعة اصطياد التناقضات الاجتماعية بجملة مركبة من الفكاهة المرة، تثير الاعجاب، وتفتح سكة واسعة لضحك متفجر، يكشف سر السخرية وروح النكتة التي يمتلكها المناضلون الاشداء: شخصية لن تنكسر وستعود منتصرة  من معتقلات الاحتلال؛ رغم قرار المحكمة العسكرية اليوم الأربعاء 22 شباط 2017 بإعادة حكمه السابق بالمؤبد، وكانت النيابة العسكرية قد استأنفت على قرار المحكمة العسكرية يوم الأحد 10 أيار 2015 في معسكر "عوفر" على أراضي بيتونيا (رام الله) بالسجن الفعلي ثلاثين شهراً بحقه دون تهمة، وبخاصة أن الاحتلال اعتقله انتقامياً من بيته في بلدة كوبر ليلة 18 حزيران 2014.

 

 

 

 

 

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017