الرئيسية / ثقافة وأدب
فاطمة والعنب وعبد اللطيف
تاريخ النشر: الخميس 23/10/2014 05:26
فاطمة والعنب وعبد اللطيف
فاطمة والعنب وعبد اللطيف

 إعداد :حياة أنور دوابشة

إن زرت قرية دوما يوما ستلحظ رائحة غريبة في الأجواء رائحة ستقص عليك قصصا نسي التاريخ أن يدونها، ملاحم بطولية غابت عن أذهان عباقرة الكتابة قد تكون بسيطة الطابع ولكن البساطة دائما ما تنذرنا بوجود المزيد، وحدها تلك الرائحة ستدلك على الطريق.

 ستستيقظ عراقتك وسيتأهب حسك الوطني وان توقفت عند كل بيت من بيوت القرية لن تخرج إلا وأنت محمل بقصص سيعجز خيالك عن سردها، ليس الناس هنالك وحدهم من يملكون ألسنة هذا ما يميز دوما عن غيرها من القرى، كل شيء في القرية ذو لسان ....اسأله يجبك ...ربما نسي الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي  أن يشمل القرية في قصيدته القدسية فأبت إلا أن تعاتبه و تصارع الخمود وتتغنى بشعر هي من خطته، وأهل القرية هم من شهدوا على خواتيمه.

 

ستستيقظ بعد هذا الخيال لتجد نفسك في لب الحقيقة ...سترى سهلا أخضر مليئاً بشجيرات عنب ....سترحب تلك البراعم الصغيرة بك وستلحظ أول باكورتها، وستأخذك الى  ملحمة كانت هي عنوانها.

 

ان عدت للعام 1969 سترى السهل نفسه والبراعم قد أصبحت عنباً لذيذاً، ولاشيء تغير ولكن تمهل قليلا لا تغادر الصورة ستلحظ فتاة تتنقل بين شجيرات العنب تربت عليها تمسحها وتداعبها وكأنها طفلها الصغير، قد تكون صورة هذه الفتاة تتكرر في كل قرية من قرى فلسطين ولكن نتوقف نحن عند الصورة الموحدة.

ستلحظ فوراً تلك الفتاة وهي تغطي عناقيد العنب بأقمشة ملونة تريد أن تطرد بها الحجل المشاكس والعصافير التي تعبت وهي تنتظر أن تثمر أشجار العنب اللذيذة، لن يعتب الحجل ولن تعتب العصافير على الفتاة فهم يعلمون أن وراء هذه العناية سرا ما.

ابق في الصورة وتوجه نحو الفتاة ستعرفك بنفسها على استحياء، انها فاطمة تملك من السنين أربعة عشرة سنة، سنينا قضتها وهي تنتظر عزيزا  أطال الغياب وطال معه الانتظار.

ستنهي فاطمة تغطية عناقيد العنب ستغوص في براعة تلك الأيدي التي تحرص أن لا تؤذي الحبات الصغيرة ستنتظر وتنتظر حتى تشفق فاطمة على فضولك، ومهما طال الوقت ستنتظر وربما سيأتي الوقت الذي تنهي فيه عملها السنوي .

ستخبرك فاطمة القصة كاملة ستحاول أن تحبس دموعها، ولكن منذ متى خلقت الدموع لتحبس؟ مع كل بداية صيف تحمل فاطمة أكياس العنب الكثيرة والتي قضت أشهراً وهي تخيطها بأناملها الصغيرة، ستقصد السهل الغربي  من قرية دوما الواقعة في أقصى جنوب نابلس، اعتادت فاطمة هذا العمل ليس حباً في العنب كما تقول وليس لرغبة في جنيه فيما بعد.

ستقول لك فاطمة والضحكة تملأ وجهها هذه المرة "كان العنب كلمة السر بيني وبين أخي عبد اللطيف، كنت أذهب بعد أن يثمر العنب وأعد الأكياس ان لاحظت اختفائا فيها أعلم أن ريح أخي مرت من هنا ".

ستسرح قليلا ان سألتها ما بها ستقول ببسمة خافتة " عندما كنت أعود للبيت ضاحكة تستوقفني أمي وتسألني دائما السؤال نفسه أرأيت عبد اللطيف اليوم؟ كانت تعلم بأن مقصدي من الذهاب للسهل هي معرفة فيما اذا أكل أخي من العنب اليوم، ولكن كانت تختفي ملامح ضحكتي عندما أضطر للرد عليها دائما بالرد نفسه رأيته ولم أره.

وحدها عناقيد العنب من كانت تخبر فاطمة أن عبد اللطيف كان هنا، وأنه دعا لها، وحمّل الشجيرات سلاما لأخته كما حمل قبله الكثير من الكلام .

عبد اللطيف البالغ في حينها من العمر 23 سنة والفدائي النشيط ،كان يأتي من طريق وادي نهر الأردن هو ومجموعة من الفدائيين القاصدين تنفيذ عمليات في منطقة تل أبيب، كانوا يعمدون الى التوقف في قرية دوما يأخذهم حب الكرم الذي يتمتع به عبد اللطيف، حب ممزوج بشوق حار الى تذوق جهد أخته فاطمة، يذهب بهم الى السهل الغربي وهناك يتلذذون بمذاق العنب ويتركون هم وعبد اللطيف بصمة في ثنايا ذلك العنب مفادها "تسلم ايدك يا خية".

 

ثم يستكمل عبد الطيف وزملائه طريقهم، وتسمع فاطمة أخبار بطولاتهم هناك من قلب الحدث، تتمركز قرب المذياع تنتظر أن يتم اعلان اسم أخيها بين الشهداء فلا يذاع.

تقول " حملت تلك الشجيرات فرحا ومآسي؛ كانت تنذرني بقدوم الحبيب ولكنها تحذرني من أنها ستكون آخر مرة يذوق فيها أخي ثمار محبتي، كنت استعيذ بالشيطان من هكذا أفكار وأقول: سيعود عبد اللطيف لن يفوت على نفسه الموسم القادم من العنب "ستؤكد " انه يحب العنب كثيرا لن يفعلها بي سوف يعود".

وتمضي الاعوام ستلمح ظلها مرة أخرى يحوم حول شجيرات العنب ينتظر عودة الأخ الحبيب ستقول لها: لن يعود يا فاطمة لكنها لن تعبأ بك، ستواصل تغطية ثمار العنب ستقول لك" ليس جميلا أن يعود عبد اللطيف مشتهيا للعنب ولا يجده، لن تسلب أيها الحجل أنت والعصافير ثمار محبتي لأخي".

بالفعل بعد شهرين عندما ينضج العنب تذهب فاطمة لتتفقد المكان وتعود ضاحكة، تستوقفها أمها وتقول " رأيت أخاك ؟ " يتكرر الرد بلهفة هذه المرة رأيته ولم أره .

تمضي الأعوام تلو الأعوام ويحمل العنب رسالة لفاطمة مفادها مازال أخوك على قيد الحياة لا تعبأي بأخبار المذياع .

تروي" لم يكن بيدي حيلة عندما كنت أسمع أخبار نجاح العمليات التي ينفذها الفدائيون، أصيح راح الخي فيعود صوت ليطمأنني لا، ما زال على قيد الحياة"

ذات فصل اختفت الطمأنينة ذهبت تلك الراحة القلبية من بين ضلوع فاطمة؛ ذهبت لتتفقد العنب جريا على العادة السنوية عادت ضاحكة سألتها أمها رأيت أخاك؟ قالت: رأيته يا أمي مسكا وروح شهيد تحلق في سماء السهل".

في ذلك الفصل لم يأت عبد اللطيف اختفت كلمة السر بينه وبين اخته فاطمة، أصبح شهيدا من بين طوابير الشهداء لا يعرف مكانهم، شهيدا من شهداء الأرقام لم تتح لأهله حتى فرصة توديع جثمانه.

خدم وطنه وضحى مثله مثل كل من ضحى وحرم من أهله، تلذذ بعنب الدنيا ووعده الله أن لا يحرمه عنب الآخرة، فاطمة تضحك وترفع رأسها للسماء وتسأل "ألم تشتق لعنبي يا أخي ؟" سيكون الرد حازما فعبد اللطيف آثر عنب الآخرة آثر الحياة الأبدية على حياة الدنيا الفانية.

غير معروف والحقيقة عن عبد اللطيف سوى روايات تحتمل الصواب وتحتمل الخطأ؛ فعضو فتح يقال بأنه استشهد في معركة وادي القلط،  وآخرون يقولون بأن روحه ارتقت لبارئها في معركة الصوانة، وكلتا المعركتين حدثتا في السبعينيات أما أين دفن، فمنهم من يؤكد على أنه شهيد أرقام إما في مقابر بيسان أو مقابر جسر بنات يعقوب وحتى أن البعض قال انه تحت ردم من أردام المغارات التي حدثت فيه المعارك، هي مجرد روايات فالله أعلم أين دفن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أنه استشهد.

سيودعك خيال تلك الفتاة ستلحظ في قصتها دموعا ورضا لن تلحظه في أي قصة مماثلة، ستودعك فاطمة وستعود تلك الرائحة لتجذبك من جديد وتحث الخطى أمامك نحو قصة جديدة ستلتفت لتودع فاطمة، وستراها وقد انهمكت في تغطية ثمار العنب، ستعود من جديد ستعود لتستلم رسالة جديدة حملها عبد اللطيف لشجيرات العنب.

 

   

 

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017