الرئيسية / الأخبار / فلسطين
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
تاريخ النشر: الأربعاء 27/12/2017 18:16
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية

كتبت اية الناشف

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر حينما قررت ختام وصديقاتها مغادرة جامعة النجاح عقب يوم طويل من انتخابات مجلس الطلبة في الثالث عشر من تموز عام 1992م، لم يكن الجو العام يوحي لهنّ بأنّ أمراً جللاً سيحدث، لكن وما أن اقتربوا من البوابة الرئيسية للخروج حتى بدا لهنّ أنّ خطباً ما يجري هنا، فالجيبات العسكرية والجنود المدججون بالأسلحة يطوقون المبنى، أُخبروا على إثر ذلك أنّ قوات الاحتلال تحاصر الجامعة وتمنع دخول أو مغادرة أياً كان منها.
مرّت ساعتان والوضع لا يزال على ما هو عليه، لا الأسباب واضحة ولا ما سيؤول الوضع إليه، إلى أن صدر قرار بالسماح للفتيات بمغادرة الجامعة مقابل تفتيشهنّ قبل الخروج، قوبل ذلك برفض الغالبية؛ فمن جانب ترفض الفتيات رفضاً قاطعاً أن يقوم الجنود بتفتيشهن، ومن جانب آخر فإنّ خروجهن جميعاً وخلو الجامعة منهن سيجعل الشباب هدفاً للاحتلال ويتيح له اقتحام الجامعة واعتقال وقتل من يشاء بحجة أن من فيها إرهابيين ومسلحين لا طلاب.
أتيحت الفرصة أمام دكاترة الجامعة للمغادرة أيضاً، لكنهم أصرّوا على البقاء داخل الأسوار مع الطلاب إلى حين التوصل لحل.
لم تكن ختام غنّام بمعزل عن الطالبات اللواتي صمدن داخل الجامعة ورفضن الخروج، فكيف مرّت أيام الحصار الأربعة عليها وعلى الطلاب وكيف انتهت؟ هذا ما ستسرده لنا في السطور اللاحقة.
اليوم الأول - الثلاثاء 13/7/1992م
"مع حلول السادسة مساءً بدأت أدرك أنّ أمر الحصار سيطول وقد يستمر إلى ساعات الليل، وباشر الجوع يطرق جدران معدتي، فتوجهت مع صديقتي إلى مقصف الجامعة لتناول بعض الطعام كان حينها يبدو شبه فارغ، وما إن دقّت الساعة السابعة حتى فرغ من المشتريات تماماً، وبالتالي لم يتبقَ أي مصدر للمواد الغذائية داخل أسوار الجامعة، وكان الجنود يمنعون إدخال أي شيء إلينا" تروي ختام.
خلال هذه الساعات القليلة بات الطلاب على دراية بأسباب الحصار، حيث تواترت الأنباء عن وجود مسلحين داخل الجامعة تريد قوات الاحتلال اعتقالهم.
ومع انطلاق أذان المغرب بدأ الخوف يتسلل إلى قلوب المحاصرين، فهم لا زالوا يجهلون مصيرهم ولم تكن الهواتف منتشرة في حينها ليستطيعوا التواصل مع عائلاتهم والاطمئنان عليهم أو طمأنتهم، ما جعلهم بين نارين، نار القلق على الأهل والتفكير بهم ونار الخوف من المصير الذي ينتظرهم.

 

تسترسل ختام" بعد صلاة المغرب مباشرة قام المجلس بتقسيم الجامعة والكليات إلى قسمين، أحدهما للفتيات وهو كلية الهندسة والمسجد وما حوله والآخر للشباب وهو كلية العلوم وما حولها، ومنعوا بشكل قطعي نزول الطالبات والطلاب إلى الساحة، ووزعوا الحرس في أرجاءها".
لم يخلُ الأمر من صوت أزيز الرصاص الذي يطلقه الجنود في الهواء بين الحين والآخر؛ لبث الخوف والرعب في قلوب من بقي داخل الجامعة، وعددهم 5000 طالب وطالبة وزائر.
خيّم الليل على الجامعة حاملاً معه هواءً بارداً رغم حرارة الصيف، ناقلاً المحاصرين إلى صراع آخر وهو على أي حال سينامون!
" حتى تلك اللحظة كنا نخال أنّ المعضلة ستحل ونعود إلى بيوتنا ولم نتوقع البتّة أننا سنبات في الجامعة، لكن عندما عانق عقربا الساعة بعضهما ليشيرا إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل، أدركنا استحالة وجود خيارات غير النوم في صرح الجامعة، وبدأت رحلة البحث عن مكان نستطيع أن نغفو فيه، وانتهى الأمر بنوم البعض على الكراسي وآخرين على الأرض أو الحقائب، والملك من يجد كرتونة يستلقي عليها، أمّا أنا لم أغمض عيناي فقضيت ليلتي أتسامر مع صديقتي ونتبادل النكات وأطراف الحديث إلى أن طلع الفجر" تردف ختام.
اليوم الثاني - الأربعاء 14/7/1992م:
بدا صدى البكاء والدعاء يتردد في المكان حين باشر المحاصرون صلاة الفجر جماعة يأمهم أحد دكاترة الشريعة، فمن لم يصل في حياته صلى خلال هذه اللحظات وتضرّع وبكى.
ومع بداية يوم جديد من الحصار، أضحت المشكلة الأكبر توفير الطعام للآلاف المتواجدين داخل الجامعة في ظل منع الاحتلال إدخال أية مواد غذائية، ونفاذها من الكفيتيريات، وفي هذا الصدد تقول ختام" لمحض الصدفة، كان أحد الدكاترة قد اشترى بعض الحاجيات لبيته (دجاج، أرز، كوسا، حمص....) فسلمها للمجلس كي يعدوا منها وجبات للطلبة، وكذلك فعل كل من يحتفظ بمواد غذائية، فأصبحنا كنظام الدولة الاشتراكية الذي يقتضي أنّ يكون ما يملكه الشخص ملكاً للجميع".
وتضيف" بالفعل تم استخدام الأطعمة في تجهيز شوربة، بحيث يحصل كل طالب على كأس واحد طيلة اليوم، لن أنسى مشهد الطلاب عندما نزلوا إلى الساحة للحصول على الطعام حينها إذ كانوا يصطفون كطوابير المؤن".
تمكن الطلاب والطالبات في اليوم الثاني من الاستماع إلى الأخبار عبر الراديو عن المفاوضات التي تجري لحل القضية وتدخل الدول الأجنبية لإنهائها، كما ترددت أنباء عن طلب منسق الشؤون العربية في الأراضي المحتلة آنذاك "روني روتشيلد" تسليم 19 مطلوباً مقابل فك الحصار -13 منهم تبيّن أنهم غير موجودين داخل الجامعة - وتفتيش كل من في الجامعة بجهاز آلي، في حين رُفض الطلب.
"في ظلّ هذه الأجواء الصعبة والأخبار المتضاربة حاول البعض التخفيف من المشكلة ورفع معنويات الطلاب من خلال إقامة جميع الصلوات جماعة في الساحات الخارجية، يتخللها حفلات إنشاد وطنية تقوم بها فرقة موسيقية من الطلاب، إلى جانب المسابقات وغيرها".
كما لم يخلُ الوضع من بعض المواقف الطريفة حيث تروي ختام" ورغم كل الهموم والصعاب التي كنا نعيشها إلّا أنّ هناك بعض الأحداث المضحكة التي كان يقوم بها الطلاب، فكان بعضهم يجلسون أعلى الدرج الطويل "درج اللغات" بحيث يكون السور كاشفاً للشارع أمامهم ويبدؤون بالنشيد والضحك وتبادل النكات ليسمعهم الجنود، إضافة إلى أنّ آخرين منهم كانوا يتكئون على السور ويرفعون أقدامهم إلى الأعلى تجاه قوات الاحتلال لاستفزازهم، ما دفع أحد الجنود لضرب طوبة بقدمه من شدّة الغيظ فأصيب بكسور وتم إسعافه".
وخلال ذلك كانت مجموعات من الشباب تجهّز نفسها لاقتحام محتمل، فأحضروا البلاط والحجارة والطوب وكسروها لقطع ووزعوها في أرجاء الجامعة، لمن يريد أن يحمي نفسه في حال دخول الجنود.
وما إن حلّ الليل حتى اخذ كلّ موقعه، وطُلب من الفتيات التناوب والبقاء على النوافذ للمراقبة، وبقي الطلاب متأهبين يحملون بأيديهم وحقائبهم الحجارة والطوب تحسباً لهجوم الصهاينة على الجامعة كما كان متوقعاً.
" كانت تلك الليلة هي الأصعب خلال أيام الحصار، فمع تعب الأعصاب الذي نعيشه وتوقع الاقتحام في أي لحظة، حصل موقف أبعد النوم عن أعيننا وتركنا في فزع وخوف، فما إن ساد الهدوء ودقّت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل حتى سمعنا صراخ فتاة فبدأت الحجارة تلقى من كل حدب وصوب ظنّاً أنّ اليهود اجتاحوا الجامعة ونحن لا ندري ما يحدث بالضبط، تبيّن بعدها أن الطالبة كانت تنام على إحدى المراسم في كلية الهندسة ووقعت عنها فبدأت بالصراخ، لم ينم احدٌ ليلتها عقب هذا الحدث".
اليوم الثالث - الخميس 15/7/1992م
بدا اليوم الثالث كسابقه، الصلاة جماعة في الساحات، وكل ما يمكن توفيره للطلاب هو حبّة "فلافل" وكأس من "البليلة" إلى جانب توزيع الماء والملح عليهم للحفاظ على صحتهم وتمكينهم من الصمود.
إلّا أنّه منذ ساعات اليوم الأولى بدأ الكثير من المحاصرين يفقدون توازنهم أو يتعرضون للإغماء جرّاء الإرهاق ونقص النوم والطعام، فيتم نقلهم خارج الجامعة وإيصالهم للمستشفيات.
"بدأ الوضع يتخذ منحىً آخر أكثر إرهاقاً وقلقاً، فجميع الطلاب يعانون بلا نوم ولا طعام، وخوف على الأهل لعدم إمكانية التواصل معهم، ولم يعد في حيلتنا الضحك أو الحديث، وكان الدكتور غسان الحلو حينها قد اعتاد أن يمر على الطلاب للاطمئنان عليهم، وفي كل مرّة يصل إلي أنا وصديقتي يرانا نضحك ونلهو يخبرنا بأنّه يحب السير من جهتنا ليرى طيف ابتسامتنا التي تدفعه للتفاؤل، لكن مع دخول اليوم الثالث بدونا منهكين وعندما رآنا في هذه الحال قال (الآن أدركت أنّ الوضع ساء وتغير فعلاً)".
لم يقتصر الأمر على الجوع والنعاس فقط، بل أساليب الحرب النفسية التي استخدمها الاحتلال على المحاصرين بدت أشدّ فتكاً، من خلال عملاء يبثون أخباراً كاذبة بأنّ اليهود سيرتكبون مجزرة داخل الحرم الجامعي، وأنّ كل من فيها يعتبر داعماً للإرهاب لأنه رفض الخروج ويستحق القتل، وأنّ الاحتلال أعلن هذا القرار بعد موافقة الدول الأجنبية عليه، لتحطيم معنوياتهم ودفعهم للاستسلام والخروج.
تقول ختام" كانوا يمارسون حرباً نفسية شرسة علينا، وحشدوا 3000 جندي حول الجامعة وأحضروا السكناج والدروز وهددوا الفتيات، فكانت أصعب علينا من التعب والجوع والعطش، لأنّ كل منا ظلّ متأهباً يحمل الحجارة والطوب وينتظر وقت الاقتحام، أو بشكل أدق الموت، وانتهى الليل دون أن نغفو لبرهة حيث قضيناه نسمع الصراخ والأنباء عن الاقتحام ثم يتبين أن لا شيء يحدث".
اليوم الرابع - الجمعة 16/7/1992م
بدت الوجود صفراء شاحبة كأنمّا يتخطفها الموت تترقب ما سيؤول إليه مصيرها، ومع ساعات الصباح الأولى باشرت بالظهور أخبار التوصل لاتفاق بين المفاوضين لفك الحصار، تقضي بإبعاد المسلحين الستّة إلى الأردن مدة ثلاث سنوات دون التعرّض لأحدهم مقابل إخراج الطلاب، وافق المجلس والمفاوضون الفلسطينيون على الحل وبدأت الإجراءات لتطبيقه.
"في تمام الثالثة بعد الظهر أُخبرنا أنّنا سنخرج من الجامعة وسيتم تسليم المسلحين لإبعادهم، توجهنا جميعاً إلى المدخل الشمالي نترقب موعد الإفراج، في البداية دخل اليهود إلى غرفة معينة بالجامعة وخرجوا ومعهم شاب مغطّى ببطانية تبيّن فيما بعد أنّه عميل اشترطوا إخراجه قبل أن تتم عملية التسليم، ورغم كلّ ما كان فينا من إجهاد وأرق إلا أنّنا فضلنا البقاء محاصرين على أن يتم تسليم المسلحين حتى ولو إبعاد دون سجن".
امتلأ الشارع أمام البوابة بالسيارات الخاصة والباصات والإسعاف والناس يترقبون خروج الطلاب لتقديم أي شيء لهم، وما إن سلّم المطلوبون أسلحتهم وأخذوهم في إحدى السيارات لإبعادهم، بدأ الطلاب بالخروج.
على إثر ذلك تمّ إبعاد عبد الله داوود محمود عبد القادر، ياسر جمعة عبد الرحيم البدوي، ناصر محمود أحمد عويص، ماجد إسماعيل المصري، بلال دويكات، محمد تيم، إلى الأردن لمدّة ثلاث سنوات ثمّ عادوا بعد ذلك إلى أرض الوطن.
تصف غنام هذه اللحظات فتقول" كنت أقف على درج الجامعة وما لبث الشباب والفتيات من أمامي وعلى جانبي يتساقطون واحداً تلو الآخر كأحجار الدومينو من شدّة الإعياء، كان مشهداً مهيباً لن أنساه ما حييت".
وتضيف" خرج الجميع وخرجت معهم وقبل أن أصل إلى الباصات التي أعلنت أن التوصيل مجاني للمحاصرين، أوقفتني سيدة على طرف الشارع وأعطتني كأساً من الليمون، من شدّة العطش شربتها على معدتي المتقشفة منذ أيام، فتسببت لي بحرق في المعدة استمر 6 أشهر خسرت على إثره 20 كيلوغرام من وزني؛ نظراً لعدم قدرتي على تناول أي شيء، فصحيح أنّ الحصار انتهى لكن آثاره بقيت تلازمني لأشهر".
البعض رأى أنّ الاحتلال انتصر بإنهاء الحصار وإبعاد المسلحين الستة إلى الأردن لمدة ثلاث سنوات، وآخرين اعتبروه انتصاراً للفلسطينيين بعد أن استطاعوا منع أسر المطلوبين أو التعرض لهم بأذى.
وانتهت بذلك حكاية من حكايات الصمود الفلسطيني، وطويت صفحاتها من كل كتاب سوى كتاب الذاكرة الراسخ في عقل كل من شهد الحصار وخطّ فصلاً من روايته أو كان حبراً لها.

 

 

 

المزيد من الصور
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
يوميات محاصرة داخل أسوار جامعة النجاح الوطنية
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017