الرئيسية / الأخبار / فلسطين
الأستاذ فريد محمود...تاريخ يقطن في بلدة سيريس
تاريخ النشر: الأربعاء 31/01/2018 12:46
الأستاذ فريد محمود...تاريخ يقطن في بلدة سيريس
الأستاذ فريد محمود...تاريخ يقطن في بلدة سيريس

جنين: من حسن برهم

من سريس بدأت الحكاية حين خرج صوت طفل من رحم والدته يعلن المجيء على هذه الحياة فيزيد عدد أهالي سيريس واحدا وعائلة أسرته طفلا أيضا، ها هي تعود الطفولة كنبتة تجلس أمام الحاج فريد تلعب باوراقها الحريرية المتهافة على كتفها، وتعقد له بجديلتها ما كان من الماضي حاملة ذاكرته إلى مكان بعيد كان قد تراكم في عمره سنين ماضية، فمن ذكرياته ما ذهب أدراج النسيان الأبدي ومنها ما عاد مع أول صوت صرير لباب الذاكرة.
الحاج فريد أحمد سليمان محمود، من مواليد عام ال1943، شاهد منذ نكبة الشعب حتى النكسة وما تلاها من انتفاضات لشعب لم تجف دماؤه عن الأرض أبدا، هجرة وحرب، فتل ودمار، تعذيب وسجن وسجان، كغيره من الشاهدين لا زال يذكر ما كان رغم صغر سنه حينها، يغمض عينيه قليلا يحدق بالأفق هنيهة، يحاول العودة لماضيه، بعض الأحيان يفشل في استعادتها وأحيان أخرى يبتسم ويبدأ الحديث بعدما تسعفه ذاكرته بما حصل حينها.
كان منشأ الحاج فريد في أسرة عادية كغيرها من اسر سريس يعيشون في منزل عبارة عن غرفة واحدة مكونة من عقد كبير له قبة في سقفه يضم سبعة من إخوته ( فريد وراشد سليمان صفية مفيد ورامز وكفاية) وكان والده كان يذهب للعمل في مدينة حيفا في وقت كانت ملامح البلاد كما هي والتي ما لبثت أن تشوهت بحاجز وجدار فصل ومستوطنة ومحتل أعاث فيها الفساد، تعود للحاج مقاطع متقطعة من هذه التفاصيل مشوشة بروح الماضي البعيد يعبس جبينه ويندى بعرق جبينه على ما يذكر ويبدو واضحا أن ما يعود له من التفاصيل يؤلمه.
"كان لدى أبي أرض مزروعة بشجر الزيتون وكان يعتني بها جدا، ويعتمد علي أيضا في مساعدته، فكل أبناء القرية كانوا يدرسون إلى جانب مساعدة الأسرة، والى جانب تفوقي بالمدرسة لم أكن مقصرا في العمل في أرضنا، فكنت اجني دوما من الزيتون مقدار ما يجنيه إخوتي جميعهم، وتتردد في ذهني عبارة أمي وفرحها حينما نحضر الزيت إلى البيت، كانت تستقبلنا وهي تقول "أجا الخير أجا".
في عمر الثامنة
قد يبدو غريبا أن الحاج فريد بدا مسيرته التعليمية في عمر الثامنة عام ال1952وقد يكون الأغرب السبب في ذلك، يقول الحاج فريد بعد ابتسامة سارحة وبريق في عينيه يضيف بهجة تلك الأيام البسيطة:" في قريتنا كانت المدرسة عبارة عن غرفة واحدة يعمل بها معلم واحد فقط يقوم بتدريس أربعة صفوف في غرفة ضيقة تجمع عددا ليس بهين من الطلاب، ففي داخلها أربعة صفوف كل صف يحوي 57 طالبا، أي لم يكن هناك مسافات بين مقاعد الدراسة ولا يستطيع المعلم التحرك داخل الصف، فحالت هذه المسالة إلى تأخيري سنتان عن البدء بدراستي في الوقت المحدد، هكذا كانت المدارس في وقتنا غرفة واحدة وإمكانات محدودة جدا".
لم يبق الحال بالطبع هكذا فبدأ أهل القرية ومعلميها باستئجار المخازن لتعليم أبنائهم واستخدام المساجد بينما تم استئجار منزل لتعليم فتيات القرية.
يضحك بشقاوة الطفولة فيبدو غزو الشيب لشعر رأسه ولحيته غير واضحاً، تبدأ تجاعيد العمر بالذبول حد الاختفاء، ويبهج وجهه بذكرياته الراحلة ثم يقول:" كنت شقيا جدا في صغري، لا يكر أي شيئا عني مرور الكرام، وكانت كثير والدتي ما تعاني معي وتشكوني لجارتنا وخالاتي كلما جلست في مجلس تروي لهن عن تصرفاتي ومشاكلي، صدقا لم أكن بذاك الطفل الوديع الهادئ، لقد كنت طفلا بعشرة كما يقولون يغزوني دوما حب التجربة والفضول ومندفع دوما.
لعل الألعاب لأجدادنا تتشابه دوما فمن لعبة الغميضة إلى الجلول "بنانير" وكرة محشوة بقطعة قماش، ألعاب كانت تجمع الصغار على المرح وأصوات الفرح رغم بساطتها، فسكنت عقولهم حتى أصبحوا رجالا ثم شيوخا يذكرون مرحهم حينها.
لم يغب التميز عن الحاج فريد، ولم يخفَ على أستاذه أنه طالب سريع الفهم ومفتوح البصيرة يختلف عن غيره من الطلاب، فبات يشجعه دوما ويثني عليه، حتى زرع فيه حب التعلم الذي قاده إلى إكمال دراسته وعدم الاكتفاء في مرحلة معينة من الدراسة حالما عرف يكتب وتعلم الحساب كغيره من إقرانه، فالتعليم حينها لم يكن بشيء ضروري جدا أمام متطلبات الحياة وبساطة العائلات والعمل الذي كان يشارك فيه الكبير والصغير على حد سواء حتى يجمعون قوت يومهم.
"درست في بلدتي سيريس ست سنوات كانت عبارة عن المرحلة الابتدائية ومن ثم انتقلت ثلاثة سنوات إلى بلدة ميثلون حتى عام 1959 ومن ثم انتقلت إلى مدينة جنين وأكملت دراستي في مدرسة كان اسمها "حيفا" كانت تتميز عن مدرستي في قرية سيريس أنها عبارة عن غرف كثيرة وملعب ومتطورة أكثر من مدرستي في القرية الأمر الذي أسعدني حقيقة".


"اللحم إلك والعظم إلنا"
يضيق يعيناه قليلا يصمت بأسى المفارقة، ويلتمس بقلبه حنين الماضي ثم يردف " في زماننا كنا إن رأينا أستاذا يمر من طريق ما فورا من الخوف نغير الطريق التي نسلك، كان للأستاذ هيبة كبيرة وكان العامل الأول في وجودها أن الأهالي يذهبون للأستاذ ويقولون له "اللحم إلك والعظم إلنا" أي أنهم يقفون في صف الأستاذ دوما ويمنحونه دور المربي مما زرع في نفوس الأبناء هيبة لأستاذهم واحتراما له يبقى لسنوات، على عكس حالنا الآن فأصبح الأستاذ مقيدا بكيفية كلامه مع الطالب وعقابه ويقتصر دوره فقط على إعطاء مادته. "
يصمت قليلا ويضيق بعينيه يطلب المزيد من التركيز والذاكرة، وينفض الغبار عن الماضي النائم في ركن ما من مخيلته ثم يردف:" كنا نتحمل شتى العقبات في سبيل العلم، لم تكن الحياة مرفهة كما اليوم ولا المواصلات متاحة كنا نذهب من سيريس إلى ميثلون مشيا على الأقدام، والفترة الأصعب تكون في فصل الشتاء حين تنغرس أرجلنا في الوحل والطين ونبتل بكاملنا تحت المطر في ذهابنا وإيابنا إلى المدرسة، ومع ذلك لم نتذمر من هذا الأمر مطلقا".
السبعين معدلا للمتفوقين
يصمت الحاج فريد قليلا ثم يردف فرحا بما سيقوله:" في وقتنا لم يكن ما يعرف بالتوجيهي، كانت على زماننا شهادة المترك حسب النظام الأردني، ولم يكن بالطبع بالنظام السهل لذلك من كان يحصل على علامة سبعين من مئة كان يعتبر متفوقا في أيامنا تلك، الآن الوضع اختلف".
اختار الحاج فريد حينها الفرع العلمي وجني السبعين معدلا لتعبه وسهر الليالي وسعيه على الاجتهاد، لكنه لم يفرح بنتيجته كما المعتاد حين يحصل طالب على نفس معدله، إذ صادف هذا اليوم مظاهرات وانقلابات على رئيس الوزراء سمير الرفاعي مما أدى إلى استشهاد شابين وإصابة ثالث.
"لم تكن التخصصات في وقتنا متاحة ومتنوعة كما اليوم، والأغلب كان يذهب باتجاه السلك التعليمي، فبعد نيل شهادة المترك يصبح الطالب مؤهلا للعمل، حينها كنت أرغب بان أكون معلما قدوة بمعلمي في المرحلة الابتدائية، فمهما توالت السنين على ذكرياتي معه إلا أنه زرع في نفسي حب التعليم وحب هذه المهنة".
طريق العمل
ها هو الحاج فريد يطوي المرحلة الأهم من حياته ويبدأ بخوض غمار المرحلة التالية فمن طالب إلى باحث عن عمل، وكما هو معروف لدى الجميع عن تلك الأيام، لم تكن الوظائف متوافرة أيضا، قدم الحاج فريد أوراقه إلى السعودية ولم يحظى بفرصة عمل لأن الرواتب للمعلمين كانت هناك متدنية جدا يتراوح فيها الراتب من خمس إلى ست ليرات أي شيئا لا يذكر أمام غربته".
قرر الحاج الذهاب إلى الامارت، وبالفعل نفذ القرار، لكن 15 عشر يوما في أحضان الغربة كانت كافية لعدوله عن قراره والعودة إلى بلده حيث المنشأ والاعتياد والانتماء، فعاد إلى فلسطيني بهمة أخرى يحاول إيجاد فرصة لنفسه ليعمل.
"عدت إلى بلدي ولم استطع الإكمال في الغربة، وقررت حينها إكمال الجامعة بعد عام من انتهائي من التوجيهي وانقلبت في تخصص الزراعة وفي عام ال1967 انتهيت من دراستي الجامعية، ولم أقوم بتقديم طلب وظيفة لأنه الاحتلال كان قد تسلم مقاليد الأمور في الضفة فمن كان يقدم طلب للوظيفة يعدونه خائنا لوطنه، لذلك لم أقدم طلب الحصول على الوظيفة.
عملت في مدرسة حيفا التي فيها درست، شعور جميل أن تعود لذات المكان بصفة مختلفة، فها هي المدرسة التي درست في أحضانها أقف الآن فيها أمام الطلاب وأدرسهم، كنت سعيدا جدا، وكان حينها مدير المدرسة رشيد الجمال، قال لي انه يريدني أن أبقى في المدرسة ولا انتقل إلى بلدي سيريس لكني رفضت طلبه وعدت في أول فرصة أتيحت لي".
من جنين إلى مدرسة سيريس حاضنة الطفولة يعود أستاذا في تاريخ 18/12/1967 بعد مجيء قرار التعيين، لم تتغير مدرسته كثيرا فمن غرفة واحدة إلى غرفتين يتسعان إلى 57 طالبا، يدرسونهم العلوم والرياضيات.
"خالد أبو شيخه كان مدير مدرسة سريس تقاعد في عام 1973 وكنت أعاونه مثيرا في العمل لان وضعه الصحي لم يكن مساعدا بسبب مرضه بالسكري الأمر الذي كان يستدعيه للذهاب إلى المسشفى بين الفينة والأخرى فأنوب عنه بالمهام والعمل"
تزوج الحاج فريد عام 1972، وأنجب 5 ذكور وفتاتين، يبدأ بذكر أسمائهم فيعزف صوته حبا له يتساقط مع موقع الكلام، يروي بعاطفة الأبوة الحنونة وبذكر تخصصاتهم مفتخرا بأنه استطاع إكمال مسيرتهم التعليمية جميعا، ويعود لذكر الأحب على قلبه أحفاده الآن كنز دنياه وحلاوة الحياة.
الظلم يلقي بظلاله
سنوات عديدة قضاها الحاج فريد يشرح ويربي وينشا جيلا كلما رآه انحنى له احتراما وودا، كان محبا لعمله متفان في شرحه أبا ثانٍ لطلابه، لكنه لم يجد ما يكافئه على جهده في سنين عمره المنصرمة.


"كان نظام الدرجات قبل دخول السلطة، أي أنه كلما ارتفعت الدرجة العلمية للموظف قلت درجته وبالتالي نال راتبا أعلى، مثلا الحاصل على توجيهي كان يصنف في الدرجة العاشرة، والمعلمين في الدرجة التاسعة،والشخص الذي يحمل شهادة جامعية بثلاثة سنوات يصنف بالمستوى الثامن وأربعة سنوات جامعيه يصنف بالخامس وفي كل عام هناك علاوة على المرتب طبعا مع وجود رقابة ومفتشين في هذا الشأن وحسب ملحوظات مدير المدرسة أيضا، أنا تم تصنيفي في الدرجة الثامنة منذ بداية عملي".
يطلق تنهيدة ضاق بها صدره الرحب، تعبر عن ظلم تعرض له بلا ذنب، مشادة كلامية بينه وبين مدير المدرسة، جعلته يكتب في الأستاذ فريد تقارير كاذبة وملفقة حالت دون تقدمه حسب الدرجات إلى خمس سنوات وهو على درجة واحدة دون ترقي، وبقي الأمر هكذا حتى جاءت السلطة الفلسطينية وتدخل احد أقربائه لحل المشكلة، وحين قدم طلبا لهيئة التقاعد كانت الصدمة أن الإجابة التي تلقاها هي أن القانون الجديد لا ينطبق عليه لأنه من الموظفين القدماء ولا يستطيع المطالبة بهذا الحق.
تقاعد الأستاذ فريد في عام 2003 وها هو يعود للحياة الروتينية الآن، أعطى فبذخ بالعطاء حفظ معروفه طلابه المحبين عيناه كانت تروي جمال مهنته وحلاوة تضحياته في سبيل العلم والتعليم.



 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017