بقلم: رغد عبد الله
حين يتحول “الإعجاب” إلى تهديد، و”المنشور” إلى تهمة، و”المشاركة” إلى سبب لحظر حسابك، يدرك الشعب الفلسطيني أن العالم الذي نعيش فيه ليس كما كنا نظن حرّاً أو مفتوحاً. نحن نعيش في ساحة احتلال رقمي لا تقل خطورته عن الاحتلال الذي نعرفه بالجغرافيا والحدود، لكنها اليوم تُمارس عبر شاشات وأجهزة لا ترا وجهنا، لكنها تراقب أصواتنا وتخنقها بحزم ودهاء.
الاحتلال لم يعد فقط جداراً أو جندياً على الحدود، بل امتد ليصل إلى أعماق حياتنا اليومية عبر هواتفنا وأجهزتنا الرقمية. الحذف المتكرر لمنشورات تحمل الحقيقة، والرقابة المشددة على المحتوى الفلسطيني، كلها ليست مصادفات، بل استراتيجية ممنهجة تستهدف إسكات روايتنا، محو تواصلنا، وإخفاء قضيتنا عن أنظار العالم. ففي حين تزدهر الأصوات الإسرائيلية على المنصات الرقمية بلا عوائق، يُنظر إلى المحتوى الفلسطيني كتهديد، ما يجعلنا نواجه رقابة مزدوجة من الخوارزميات غير المحايدة ومن أنظمة سياسية تخشى كلمة الحق.
هذا الاحتلال الرقمي لا يقتل فقط الأفكار، بل يُسكت أصحابها أيضاً. عدد كبير من الناشطين والصحفيين وحتى المستخدمين العاديين يختارون الصمت، أو الحذر الشديد، خوفاً من إغلاق حساباتهم أو تصنيف منشوراتهم كـ “تحريض”، مما يؤدي إلى فقدان أرشيف كامل من التوثيق الرقمي والتاريخي. ونحن هنا لا نفقد فقط مساحة التعبير، بل نخسر ذاكرة رقمية تمثل أحد أهم أدواتنا للحفاظ على هويتنا وروايتنا في مواجهة محاولات الطمس.
في مواجهة هذا الواقع، يصبح من الضروري أن نسأل أنفسنا كفلسطينيين وكمستخدمين عاديين وخصوصاً كطلاب إعلام: هل نمتلك الوعي الكافي لمواجهة هذا الاحتلال الناعم؟ هل درّسنا كيف نحمي أنفسنا من التصفية الرقمية؟ هل نعرف كيف نستخدم الأدوات الرقمية بطريقة تحافظ على أصواتنا دون أن تُحذف أو تُنسى؟ الواقع المؤلم هو أن معظمنا لم يُجهز بعد لهذه المعركة المعقدة، وهذا نقص خطير قد يعرّض مستقبل صوتنا الفلسطيني للخطر.
كطالبة إعلام فلسطينية، أرى أن مسؤوليتنا مضاعفة في هذا الظرف. لا يمكننا الاكتفاء بفهم التهديد، بل يجب أن نكون المبادرين في بناء وعي رقمي شامل، وتطوير مهارات المقاومة الرقمية التي تمكننا من كسر الحجب، وتجاوز الرقابة، وصناعة منصات بديلة إذا اقتضى الأمر. الإعلام اليوم هو سلاحنا الأقوى، ولولا هذا الصوت لما استطاعت القضية الفلسطينية أن تبقى حية في وجدان العالم.
الاحتلال الرقمي يحمل في طياته خطورة أكبر من الاحتلال المادي في بعض الجوانب، لأنه يتغلغل خفية، ويعيد تشكيل وعي الأجيال القادمة، ويعطل قدرتنا على التعبير والتوثيق بحرية. ولهذا، يجب أن يكون الوعي الرقمي جزءاً أساسياً من مناهجنا الدراسية، وموضوع بحث وتطوير مستمر، لأننا بذلك نحمي صوتنا من الضياع ونصنع مقاومة جديدة في عالم متغير.
نحن بحاجة إلى تعزيز ثقافة استخدام الإنترنت بطريقة ذكية، ونشر المعرفة عن كيفية التعامل مع أدوات الرقابة، والبحث عن طرق إبداعية للحفاظ على وجودنا الرقمي، وإيصال قصتنا للعالم مهما حاول الاحتلال الرقمي أن يخنقها. لأننا في النهاية، لو فقدنا صوتنا في الفضاء الرقمي، نكون قد خسرنا جزءاً كبيراً من هويتنا وحقنا في الوجود.
الاحتلال الرقمي ليس مجرد تحدٍ تكنولوجي، بل هو معركة وجودية تتطلب منا الوعي، والصبر، والذكاء، والإصرار. المقاومة اليوم تبدأ من كل منشور، من كل قصة تُروى، ومن كل جهد يبذل للحفاظ على صوتنا الفلسطيني حيّاً في الفضاء الرقمي الواسع. فهل نحن مستعدون لهذه المعركة؟ وهل سنكون نحن الجيل الذي يصنع فرقاً، أو ذلك الذي يظل صامتاً تحت وطأة الحجب؟