الرئيسية / الأخبار / فلسطين
بساقين فولاذيتين ترحل للسجون بقلم: بسام الكعبي
تاريخ النشر: الأثنين 28/07/2014 19:11
بساقين فولاذيتين ترحل للسجون بقلم: بسام الكعبي
بساقين فولاذيتين ترحل للسجون بقلم: بسام الكعبي

 اتكأت على جدران أحزانها، وذرفت دمعتها الأخيرة وهي تسمع قراراً جائراً بصلب نجلها عاصم 18 عاماً على قضبان السجون. ترى هل تبقي في مقلتيها دمعة فرح قادمة لتعانق نجلها محرراً؟ هل بقي متسع في أيام عمرها تشعلها انتظاراً لعودة آخر أحبائها إلى حضنها؟ هل فاض قليلاً نهر أحزانها ولم يعد قلبها يحتمل مرارة أكثر. كيف شقت الأحزان جدول يومياتها ورسمت خارطة حياتها؟


لم تكن تبدأ طفولتها بعد، ولم تكمل صفها الثاني في مدرستها الصغيرة، عندما اعتدى المحتل على بيوت قريتها "السوالمة" الملاصقة لمدينة يافا. هجّر أهلها وشتت شمل أسرتها ثم أجهز على ما تبقى من البيوت المسالمة, وحطم جدران المدرسة ومقاعدها المتواضعة... وأضاف القرية إلى مئات القرى الفلسطينية المدمرة، فاضطرت للمغادرة وسط المواجهات المسلحة إلى الشرق قليلاً لتصبح لاجئة في وطنها وتحمل رقماً ضمن قوائم وكالة الغوث.

لم تكمل السابعة عشرة عندما تزوجت واستقرت في مخيم بلاطة، وعلى مدار عشرين عاماً من حياتها الزوجية ولدت اثنا عشر طفلاً، عاش ثمانية ودفنت أربعة، وواصلت حربها ليصمد الأحياء من أبنائها. كانت تنهض مع كل فجر تتحدى مخالب الفقر وتصد بوابة الجوع وتشحذ ذاكرة أطفالها بهويتهم وتاريخ قريتهم التي باتت رماداً. كانت تحدثهم عن نهر العوجا الذي يغسل أراضيهم الزراعية, وعن بياراتهم وبيوتهم، وعن طفولتها هناك, وهدوء المكان وتسامح السكان.

كانت تسهر كل ليلة تحيك لصغارها ما تيسّر من ملابس بسيطة عسى أن تواجه قسوة الشتاء. كانت تضع إبرة الحياكة جانباً عند الفجر وتنطلق إلى عين بلاطة من أجل أن تصنع من ماء صفيحتها -مخلوطاً بدقيق وكالة الغوث- لفائف الزعتر. كان الأبناء يفيقون على إيقاع رائحة الخبز. يتناولون وجبتهم ويتجهون إلى مدرستهم القريبة. تحرسهم بنظراتها ودعواتها وصلواتها بأن يعبّد الله طريق نجاحهم. ثم تجهز وجبة متواضعة لزوجها يسد بها رمق جوعه قبل أن يفترسه صاحب المصنع عند الصباح، ويتغذى طوال النهار على نسيج عضلاته قبل أن يمنحه أجرة بالكاد تكفي احتياجات متواضعة لأسرته.

على بوابات الأربعين من عمرها. اختتمت سنوات الإنجاب، وتلقفت آخر عناقيد الحب، عاصم. كان ذلك في اليوم الأول من العام 1978. شعرت بفرح غامض وهي تحتضن عاصم وتستذكر رحلة تشردها منذ ثلاثين عاماً. ترى هل تخبّئ السنوات المقبلة أياماً أكثر قسوة من التي فارقتها؟ لم يكمل عاصم عامه الثالث بعد، عندما اعتدت قوات الاحتلال على منزلها في مطلع مايو-أيار عام 1980، وعبأت أفراد أسرتها وما تبقى من أثاث محطم في شاحنة عسكرية وألقت بهم في مخيم عقبة جبر المجاور لمدينة أريحا، للاشتباه بأن نجلها أحمد (16 سنة) أطلق النار على باص لجنود الاحتلال.

مكثت في لجوئها الجديد مدة أسبوعين، وقاومت مع زوجها وأبنائها الصغار كل محاولات الاحتلال لإبعاد أسرتها إلى الأردن، وأعلنت إضراباً عن الطعام. وبفعل حركة تضامن واسعة استندت إلى رفض العقوبات الجماعية، عادت منتصرة إلى منزلها، لكن بريق انتصارها خطفه حكم بالسجن الفعلي اثنا عشر عاماً على نجلها أحمد. في حين التصق بنجلها الصغير عاصم لقبه الجديد "أبو جبر" من المخيم الذي تمدد تحت شمسه الحارقة مدة أسبوعين. وهكذا جهّز مبكراً شرطه الأول للالتحاق بالمقاومة عبر اسم حركي جديد.

منذ منتصف العام 1980 بدأت رحلتها المنتظمة إلى السجون. كانت تمتلك ساقين فولاذيتين وإرادة صلبة. طاردت نجلها أحمد في كل سجون الاحتلال. ليلة الزيارة لا تعرف طعماً للنوم، ومع ساعات الفجر الأولى كانت تضع قدمها في باص "الصليب" المتوجه إلى بئر السبع، أو عسقلان وربما نفحة. كانت تنتظر طويلاً في صفوف ذوي الأسرى لترقب متغيرات وجه نجلها, الفتى الذي أخذ يسابق سنوات عمره نحو الرجولة. وكانت تعود إلى بيتها منهكة لكنها تتابع شؤون أسرتها واحتياجات أفرادها.

مع انطلاقة الانتفاضة الكبرى (ديسمبر-كانون أول 1987) كانت قد قضت سبع سنوات ونصف تركض خلف نجلها أحمد من سجن إلى آخر، لكنها في اليوم الثالث للانتفاضة ودعت "سلفتها" وصديقتها أم أسعد التي غادرت وهي تقبض على رصاص المحتل في قلبها. بكت دماً على فراقها واشتد حزنها لحظة دفن الشهيدة وهي تلمس مدى آلام صغارها الذين فارقتهم إلى الأبد.

وبعد الجنازة اكتشفت أن رصاص المحتل نال أيضاً من خاصرة نجلها الرابع عصام، وعلمت أنه يرقد في مستشفى الاتحاد بنابلس بجوار ابنة عمه هناء التي خطف الرصاص ذاته إحدى كليتيها. تشافى عصام من إصابته, ونقلت ابنة عمه إلى الأردن لمتابعة وضعها الصحي والحيلولة دون تهديد كليتها الوحيدة. لكن معتقل الفارعة، شرق نابلس، ثم النقب كانا بانتظار نجلها عصام.

في منتصف عام 1988، وبعد ستة أشهر على الانتفاضة، واجهت ما لم يخطر ببالها قط: ابنها البكر يقبع في سجن جنين، نجلها الثاني باسم في زنازين معتقل رام الله، نجلها الثالث أحمد في سجن عسقلان، ونجلها الرابع عصام رهن الاعتقال الإداري في سجن النقب الصحراوي. في حين كان نجلها عاصم يتجاوز سنواته العشر بقليل ويصرّ على مرافقة والدته عند زيارة كل معتقل. ومن أين لها أن تعلم أن الصغير سيشب سريعاً ويحجز "برش" شقيقه أحمد لسنوات طويلة؟ ارتاحت قليلاً صيف 92 أنهى نجلها أحمد حكماً امتد اثنا عشر عاماً، وكان أشقاؤه الثلاثة قد أنهوا أحكامهم القصيرة نسبياً. ثم استأنفت قلقاً على مصير أبنائها من مداهمات في الليل واحتجاز روتيني دائم لعدة أيام خلال المناسبات الوطنية.

على إيقاع انتفاضة القدس (سبتمبر-أيلول 2000) اشتد عود عاصم، وراح يبحث عن أعلى سقف لأشكال المقاومة وأعقدها, فانخرط بالأجنحة المسلحة, ونفذ مهماته, فأصبح مطارداً للاحتلال. وباتت هي لا تعرف -مرة أخرى- مذاقاً للنوم. حاصرتها الأوجاع من كل الجبهات, وزحفت على ساقيها, ولم تعد تقوى على المشي أو تركض خلفه لتبحث عنه في مخابئ الرفاق. بات عاصم طريداً وهدفاً للاغتيال, وباتت هي حزينة تسأل عن سر خيانة ساقيها.

ومع سقوط بغداد المدوي في قبضة المحتل الأميركي وقع عاصم في قبضة المحتل الإسرائيلي، وبدأت رحلة جديدة من القلق ومطاردة أخباره في ظروف حصار خانق. بعد ستة شهور على اعتقاله، تمكنت من اجتياز الطريق من بلاطة إلى سالم شمال جنين، لحضور جلسة المحكمة العسكرية للنظر في لائحة اتهامه. كانت سعيدة لمشاهدته متماسكاً, وحزينة لأنها لم تتمكن من معانقته. وعادت أدراجها عبر طرق صعبة وحواجز كثيرة, وقضت ساعات طويلة في سكة عودتها.

وفي الأسبوع الأول من أبريل- نيسان الجاري عادت مرة أخرى منهكة بعد رحلة يومين من بلاطة إلى محكمة سالم العسكرية شمال الضفة، وصلت بيتها بشق الأنفس، يشعل قلبها حكم بالسجن ثمانية عشر عاماً بحق عاصم. ترى هل تستطيع أن تصل إليه لزيارته في سجنه؟ هل تساعدها صحتها المتعثرة على ذلك؟ أرجو أن يصمد قلب أمي ولو قليلاً في مواجهة هذه المحنة، وتتمكن من زيارة شقيقي في سجنه. ادعوا معي لقلوب جميع أمهات الأسرى بعمر مديد.
 
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017