الرئيسية / مقالات
"مانيفيستو" الرعب، وفساد الديمقراطيات الغربية
تاريخ النشر: السبت 16/03/2019 16:05
"مانيفيستو" الرعب، وفساد الديمقراطيات الغربية
"مانيفيستو" الرعب، وفساد الديمقراطيات الغربية

الكاتب: د. حسن أيوب؛ أستاذ السياسة الدولية والسياسات المقارنة في جامعة النجاح الوطنية-نابلس
لا يمكن النظر إلى الهجوم الإرهابي المروع الذي ارتكبه أحد اليمينيين البيض المتطرفين باعتباره حدث منفرد أو معزول. ذلك الاسترالي البالغ من العمر 28 عاما قد جسد بفعلته الشنيعة واحدا من أبرز مظاهر الأزمة الشاملة التي تعصف بالمجتمعات الأوروبية البيضاء، بالمعنى الواسع لتعبير "أوروبية بيضاء". لقد حرص الجاني وبصورة استثنائية على أن يمنح جريمته عمقا أيديولوجيا وتاريخيا، ومشهدية تقترب من العالم الافتراضي حد التطابق في توظيف مروع للتكنولوجيا، يستحضر في هجوم واحد مواطن القوة العارية المتفوقة للعالم الغربي: السلاح، التكنولوجيا، والتبرير "الأخلاقي"/"الثقافي". هذه القوة منحت "الرجل الأبيض"، عبر عصور الاستعمار والعنصرية السافرة وحتى يومنا، خلفية سلوكه المتعالي، وادعائه الذاتي بالحق. إن مراجعة سريعة لهذه الظاهرة ستقودنا للإطلال على ما يعتمل من تغيرات مرعبة في قلب ما يوصف بالعالم الديمقراطي الليبرالي الأوروبي والأنجلو-سكسوني.
الحاضنة السياسية والأيديولوجية
يحتاج كل عمل بهذه المواصفات الاسثنائية في وحشيتها وتبريرها إلى حد أدنى من القبول المسبق في البيئتين السياسية والأيديولوجية في مجتمع الجاني، وهو ما وفرته جملة التطورات التي تعيشها المجتمعات الغربية من حيث انتقال قوى اليمين المتطرف ودعاة التفوق الأبيض white supremacists من هامش الحياة السياسية والثقافة الاجتماعية إلى مراكزها. إذ تشهد الديمقراطيات الليبرالية الغربية سلسلة من الانتكاسات المتتالية التي تعبر عن نفسها بالصعود المتنامي للأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة المعادية للديمقراطية، وللمهاجرين وللسياسات الاقتصادية لحكومات بلادها (توصف هذه القوى اليمينية عموما بالشعبوية والشوفينية) في موجة عارمة تذكرنا بصعود الفاشية والنازية عشية الحرب العالمية الثانية على خلفية الأزمة الاقتصادية العالمية (الكساد العظيم) واحتدام صراعات الأيديولوجيا بين قطبي السياساة العالمية في حينه. يتراوح هذا الصعود اليوم بين وصول هذه الأحزاب للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، بولندا، هنغاريا، والنمسا (ناهيك عن دول غير أوروبية مثل البرازيل والفلبين وغيرهما)، وبين مشاركة هذه الأحزاب في الائتلافات الحاكمة (السويد والدنمارك)، أو حصولها على نسب متزايدة من أصوات الناخبين في كل الانتخابات (عامة ومحلية) التي جرت منذ العام 2010 مثل حزب "الجبهة الوطنية" في فرنسا، وحزبي "باجيدا" و"البديل من أجل ألمانيا" في ألمانيا.
مثل هذه التطورات شكلت الحاضنة ليس فقط لهجمات نيوزيلاندا، بل في العمق أنشأت تحالفات مشوهة بين قوى اليمين السياسي في مواجهة "الاتحاد الأوروبي"، وفي معاداة الأجانب (وعلى نحو خاص المسلمين)، ومناهضة اليسار التقدمي وقوى العدالة وحقوق الإنسان، واحتقار النظام الرأسمالي. يقول سفاح نيوزيلاندا في "المانيفستو" معبرا عن انطباعاته في زيارته لفرنسا وتعقيبا على خسارة ةاليمين للانتخابات الرئاسية الأخيرة هناك: " أشعر بيأس وإحباط كبير عندما أرى مصرفياً، رأسمالياً، يحب المهاجرين ويكره البيض على رأس البلاد التي كانت ذات يوم مهد الكاثوليكية". فالتعبيرات اليمينية في خطاب السياسيين تشكل المادة الأولية للفعل المباشر. من ذلك على سبيل المثال تلك الصداقة التي لا تنم عن مفارقة أخلاقية مفزعة بين حكومة "بنيامين نتنياهو" وبين حكومات كل من هنغاريا، وبولندا، وإلى حد كبير النمسا بالرغم من أن ألأحزاب الحاكمة فيها لا تخفي عدائها لليهود واليهودية، بقدر ازدرائها للمهاجرين المسلمين. هي ذات العلاقات الفاسدة أخلاقيا التي تجمع الإدارة الأمريكية بحكومة "اسرائيل" وبمعزل عن حقيقة كون هذه الإدارة من دعاة والمدافعين عن التفوق الأبيض والعداء للاخر وبما يشمل اليهود. لقد كان من بين ثمار هذه الزيجات المحرمة -على سبيل المثال- قمة وارسو الأخيرة، وقمة "فسغارد" التي كانت ستعقد في "اسرائيل" لولا تصريحات نتنياهو التي أحرجت واستفزت شركائه اليمينيين في بولندا وتشيكيا، وبلغاريا.
نظرية "الاستبدال الكبير"
لقد سبق الهجوم الإرهابي في نيوزيلاندة سلسلة هجمات ضد المهاجرين المسلمين في أوروبا وكندا بين الأعوام 2010-2018 ، وضد قوى اليسار في النرويج في العام 2010، وضد المسلمين واليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبلجيكا، وكلها تحمل ذات الرسالة التي عبر عنها سفاح نيوزيلاندا في "مانيفستو"/البيان "الاستبدال الكبير" المكون من حوالي 80 صفحة: تحويل الصعود اليميني المسيحي الأبيض إلى فعل مباشر عوضا عن العمل السياسي. فالتصريحات والمواقف السياسية والأفكار تقتل، وسيُظهر أمثال هذا السفاح احتقارهم لما يعتبرونه نفاق السياسيين من خلال تحويل هذا "النفاق" إلى حملات تطهير. ففي حين أشاد "المانيفستو" إياه بدونالد ترامب "كرمز لتجديد الهوية البيضاء وهدف البيض المشترك"، وجه انتقادا لاذعا لزعيمة اليمسن الفرنسي "ماريان ج. م. لوبين" لفشلها في تحقيق انتصار الشعوب البيضاء". عبر عن ذات الفكر "أندريس بريفيك" الذي نفذ هجوما مزدوجا استهدف أساسا تجمعا لشبيبة حزب العمال الحاكم في حينه مخلفا 70 قتيلا وعشرات الجرحى. يقول "بريفيك" في مدونات سبقت جريمته "مؤمن واحد أقوى من مئة ألف من الباحثين عن المصالح فقط" في محاولته للاحتجاج على سياسات حكومة بلاده تجاه المهاجرين المسلمين. وبالمثل، عبر سفاح مسجد كندا "ألكسندر بيسونت" أيضا عن أعجابه بدونالد ترامب وماريان لوبين شأنه شأن السويدي "أنطونن بيترسون" الذي نفذ هجوما مماثلا ضد المسلمين في العام.
إن نقطة التقاء الأحزاب والسياسيين اليمينيين في العالم الغربي مع الإرهابيين المسيحيين البيض هي ذلك الفكر المسكون بكراهية "الاخر" غير الأبيض، وغير المسيحي، وبخاصة المسلم واليهودي، مثلما كان في يوم من الأيام يشمل الشيوعي. يعتبر الفرنسي "رينو كامو" أحد أبرز مفكري الكراهية في أوروبا، ومن أفكاره استمد هؤلاء السياسيين والإرهابيين على حد سواء العداء العلني لغير البيض، فهو صاحب نظرية "الاستبدال الكبير" والتي وردت محاورها صريحة في "مانيفستو" نيوزيلاندا. بالعبارات التالية لخص السفاح دوافعه المستمدة من هذه النظرية: "أراضينا لن تكون لهم (أي المهاجرين المسلمين)؛ المهاجرين المسلمين هم غزاة معادون؛ قتل المسلمون مئات الاف الأوروبيين البيض؛ لا سبيل لمنعهم من الهجرة سوى تخويفهم؛ ولا حل لمعدلات المواليد المرتفعة بينهم سوى بالقتل. إن تجربة الثقافة الغربية مع المزاوجة بين الأفكار الدينية الخلاصية والفكر السياسي المتعالي لن تختلف مخرجاتها عن أي جمع بين هذين المكونين في أي ثقافة أخرى، ويمكن تلخيص هذه االمخرجات بفكرة واحدة: صراع الخير ضد الشر، والحق ضد الباطل. برأي أمثال "كامو" ومرتكبي هذه الجرائم واخرهم سفاح نيوزيلاندا فإن ما يفعله السياسيون في الغرب غير كاف لجهة حماية المجتمعات الأوروبية (مرة أخرى؛ بمعناها الواسع) من غزو الغرباء الذين يمثلون الشر والباطل. إنه تواطؤ بين السياسة وأحزاب اليمين من جهة، وبين دعاة النقاء العنصري المسيحي الأبيض من جهة أخرى يكشف المدى الذي وصله فساد الديمقراطيات الليبرالية في العالم الغربي.

تصنيف الضحايا
ليس أدل على هذا التواطؤ من التصنيف الضمني الفاضح لضحايا الإرهاب. إذ يحق لشعوب "الجنوب"، وبخاصة تلك التي اكتوت بنيران الحروب الأهلية والتدخل الخارجي (الغربي بطبيعة الحال!) فلفظت بناتها وأبنائها ليذهبوا في رحلات الموت عبر البحار متجهين شمالا نحو أوروبا؛ يحق لهم أن يسألوا باستنكار: لماذا تجند كل قادة العالم ليستنكروا هجمات إرهابية حدثت ضد الفرنسيين والبلجيكيين ولا نجد ذات ردود الأفعال عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين المسلمين؟ فقد دأبت أوروبا محاطة بنفاق عالمي مخجل على إبراز الجريمة فقط عندما يكون ضحاياها من البيض. ولا مغالاة في القول بأن "الهولوكوست" ما كان ليحظى بهذا القدر من "القداسة" إلا لأنه في نهاية المطاف قد ارتكب بحق أوروبيين من البيض بسبب ديانتهم اليهودية، بينما لا تحظى تلك التي تقترف ضد غير البيض (المسلمين، الأفارقة على يد الاستعمار الأوروبي بالذات، الاسيويين...الخ) بذات الدرجة من "القداسة"، وربما يفسر أيضا عدم المجاهرة بالعداء لليهود من قبل ذات القوى اليمينية-المسيحية التي لا تجد غضاضة في المجاهرة بعدائها للمسلمين وللجماعات غير الأوروبية/غير البيضاء. وإلا ما الذي يفسر تلك الحملات المسعورة في أوروبا والولايات م. أ والتي تشمل سن التشريعات والقوانين لإدانة كل من يشارك في أنشطة أو يدعو لمقاطعة "اسرائيل"، بينما لا يجد كارهي المسلمين واليهود والغرباء (وهذا يشمل رجال سياسة وأعضاء برلمانات على شاكلة الأسترالي الذي حمل المسلمين مسؤولية الجريمة في نيوزيلادا) ما يردعهم عن التأييد العلني لأفعال شنعاء ترتكب باسم حماية الحضارة والمجتمعات الغربية؟


 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017