بقلم: عائشة حموضة – ناشطة نقابية
يعيش العامل الفلسطيني اليوم واحدة من أصعب المراحل التاريخية في مسيرته النقابية والاجتماعية. فالواقع الذي نمر به ليس مجرد “حد أدنى” للأجور، بل هو واقع أقصى من الألم والمعاناة، واقع يكشف عن هشاشة سياسات الأجور وعن انعدام العدالة في سوق العمل الفلسطيني.
الحد الأدنى للأجور في فلسطين محدد بـ 1880 شيكل منذ قرار مجلس الوزراء عام 2021. لكن هذا الرقم، في ظل الظروف الحالية، أصبح رقمًا متآكلاً أمام غلاء المعيشة، لا سيما بعد تداعيات جائحة كورونا التي فاقمت الأزمات، ثم جاءت الحرب المدمرة على غزة لتسقط القناع عن هشاشة الاقتصاد الفلسطيني، ولتُظهر أن قيمة هذا الحد الأدنى فقدت أي معنى حقيقي على أرض الواقع.
مشكلة التطبيق قبل النص
المعضلة الأكبر ليست فقط في تدني قيمة الحد الأدنى للأجور، بل في التهاون بتطبيقه. فاللوائح الناظمة لم تستطع أن تلزم القطاع الخاص، مما ترك آلاف العمال، خصوصًا النساء، دون حماية. وتشير تقديرات نقابية إلى أن نسبة النساء اللواتي يتقاضين أقل من الحد الأدنى تفوق 30%، والكثير منهن لا يفصحن عن ذلك بسبب غياب أدوات الحماية في قانون العمل الفلسطيني الذي مرّ عليه 25 عامًا دون تعديل.
سياسات اقتصادية تفتح الباب للاستغلال
تحت مبرر “تدهور أوضاع المنشآت الاقتصادية”، لجأت العديد من المؤسسات إلى خفض الأجور، وإعادة هيكلة عقود العمل، وتأخير دفع الرواتب. لكن هذه السياسات، التي باتت ممنهجة، سمحت بترسيخ ثقافة الاستغلال والاستعباد الاقتصادي، بدلًا من تعزيز العدالة الاجتماعية.
في المقابل، يغيب عن النقاش أن العمال هم العمود الفقري للاقتصاد الفلسطيني. فمن دون صمود العمال في السوق المحلي، لن يكون هناك بناء حقيقي لاقتصاد وطني مستقل. الاعتماد المفرط على العمل داخل الأراضي المحتلة، رغم مخاطره على حياة العمال، هو نتيجة مباشرة لغياب العمل اللائق في السوق الفلسطيني.
أين يذهب 1880 شيكل؟
بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن تكلفة خط الفقر الوطني لأسرة مكونة من 5 أفراد تتجاوز 2500 شيكل شهريًا، بينما تصل تكلفة “سلة الاستهلاك الأساسية” إلى مستويات أعلى بكثير بعد ارتفاع الأسعار بنسبة تفوق 25% خلال العام الأخير بفعل الحرب وغلاء المواد الغذائية.
هذا يعني أن الحد الأدنى للأجور (1880 شيكل) يغطي بالكاد 60 – 65% من الحد الأدنى لاحتياجات الأسرة الفلسطينية، وهو ما يجعل آلاف الأسر، وخاصة الأسر المعيلة من النساء، مكشوفة اقتصاديًا وأكثر عرضة للفقر المدقع.
توصيات عاجلة
أمام هذا الواقع الصعب، أؤكد على مجموعة من الخطوات التي يجب أن تُناقش بجدية:
1. مراجعة قيمة الحد الأدنى للأجور (1880 شيكل) فورًا وربطه بخط الفقر الوطني وكلفة المعيشة.
2. ربط الأجور بمؤشر غلاء المعيشة بشكل سنوي ومنهجي، بحيث يكون الارتفاع تدريجيًا ومتناسبًا مع التضخم وارتفاع الأسعار.
3. إلزام القطاع الخاص بالتطبيق الفعلي من خلال آليات رقابة وعقوبات واضحة على المخالفين.
4. تعديل قانون العمل الفلسطيني ليصبح أداة حماية حقيقية، خصوصًا للنساء العاملات اللواتي يقعن أكثر عرضة للاستغلال.
5. انتظام عمل لجنة الأجور الوطنية على المستويين الوطني والقطاعي، لضمان تحديث مستمر للسياسات.
الكرامة أساس الصمود
يبقى السؤال الجوهري: هل الأولوية للحفاظ على المنشآت الاقتصادية وحدها، أم للحفاظ على العامل الفلسطيني وصموده؟
إن العامل هو حارس الأرض وباني الدولة، وإذا لم نحافظ على كرامته، فسيفقد قدرته على البقاء، وتنهار معه مقومات الاقتصاد الوطني.
إننا اليوم أمام مسؤولية تاريخية، إما أن نعيد الاعتبار للأجور كأداة حماية اجتماعية، أو نترك العمال فريسة لسياسات الاستغلال التي تقتل فيهم الأمل وتدفعهم إلى الهجرة أو العمل تحت الاحتلال.
فلنسعَ جميعًا إلى ردع هذا الصدع وحماية كرامة العامل الفلسطيني، لأن صمود العامل هو صمود الوطن